يعرفه الناس باسم "قصر الكويتيّ". من السهل طبعًا لمن أراد البحث عن اسم صاحبه أن يصل إليه، غير أنّنا في البلدة اتفقنا ضمنًّا على هذا الاسم ولم يعد يعنينا أن نسأل الأكبر منّا سنًا من هو صاحب هذا القصر المهجور، المعتمر طربوشه القرميد الممزّق، والمحاط بمجموعة من أشجار السرو.
منذ زمن بعيد لم نر فيه أحدًا من أصحابه، ولا شكّ في أنّ آخر زيارة لهم تعود إلى ما قبل الحرب. أمّا خلال الحرب وبعدها فأقامت فيه عائلات مهجّرة من قراها أو من بيوتها المتاخمة لخطوط التماس، وصار أفرادها جيراننا رغمًا عنّا وعنهم، فالحرب لا تترك لنا خيارات واسعة. بعد الحرب، عاد الناس إلى بيوتهم وقراهم وخلا القصر من الحركة والأصوات وصراخ الأولاد، غير أنّ ثلاثين سنة كانت كافية لكي تولد فيه أجيال، ويتزوّج أفراد، ويموت كثر. ثلاثون عامًا هي عمر كامل مليء بالذكريات التي ستطمرها الجرّافات قريبًا ليرتفع مكان القصر المهجور بناء حديث يغري مالكيه بأن يقيموا فيه.
يحقّ للأمير الكويتيّ أن يستردّ قصره وأرضه كما يحقّ لكلّ إنسان في أيّ مكان في العالم أن يستردّ حقوقه، غير أنّ أحدًا لن يعتب علينا إن أسفنا لتغيّر معالم البلدة متى هدم القصر القديم. فالذكريات التي تراكمت في بالنا وألبومات الصور خلال تلك المرحلة صارت ملكًا لنا، ومن حقّنا أن نحزن حين لا يبقى إلاّ الذكريات والصور التي تعود إلى يوم بُدئ العمل في بناء القصر، مرورًا بزيارات قليلة قام بها أصحابه إليه خلال صيفيّات لبنان، وصولاً إلى اختباء الناس في طبقاته السفلى خلال القصف، وانتهاء بأسراب العصافير التي نراها مقيمة في شقوق حيطانه، وتتجوّل داخل غرف القصر وحوله بحريّة. فمتى كانت الأبواب مشرعة والنوافذ "مشلّعة" سهل الدخول والخروج للطيور كما للحشرات والأفاعي.
ما زلت أذكر، وإن في غموض وضبابيّة، ناطور القصر مع عائلته المؤلّفة من زوجته وابنته الوحيدة "حياة" وولديه "زياد" و"طلال". أعتقد أن اسمه "محمّد"، غير أنّ كنية "أبو طلال" هي التي تتردّد في ذاكرتي حين أستعيد مشاهد الحياة في تلك المرحلة. والآن عندما أقف أمام منزلنا المواجه للقصر المهدّد بالزوال، أشعر أنّ الركام قد يدفن تحته "إم طلال" بمنديلها المعقود حول رأسها، وأولادها الذين لا يزورون أحدًا إلاّ برفقة والديهما، وأكتشف أنّ محو الذاكرة يبدأ من محو المكان. ولذلك أصرّت إسرائيل على تغيير معالم الأرض في القرى والبلدات الفلسطينيّة، واستبدال أشجار البرتقال بأشجار أخرى، والقضاء على كلّ ما يمكن أن يجعل الفلسطينيّ يهتف حين يعود: هنا كان...
وأنا سأقول في الصيف المقبل، هنا كان قصر "الكويتيّ"، والكويتيّ أمير لا أعرف وجهه أو شكله، ولكننّي أعرف قصره الذي تجوّلت فيه يوم فتح المسلّحون أبوابه وأسكنوا فيه أقرباءهم المهجّرين، ورسمت في بالي صورة عن أصحابه وأذواقهم في اختيار السجّاد واللوحات والأثاث، وما عاد من السهل أن أستبدلها بغيرها. وفي الصيف المقبل حين تبدأ عمليّة الهدم، ويجلّل الغبار البلدة والأشجار، سألقي النظرة الأخيرة على القصر الذي أُجبرت في ليلة قصف عنيف أن أرافق أهلي لنختبئ مع سوانا من الأقارب والجيران في الملجأ القابع تحته. وفي حين نام الجميع في تلك الليلة، سهرت وأنا أستمع إلى سمفونيّة عجيبة غريبة من أنواع الشخير وأنواع القذائف، وضحكت من نفسي حين خطر لي أن تكون الليلة الوحيدة التي أتيح لي فيها أن أمضي ليلة في قصر أمير هي في ملجأ وتحت القصف وفي رفقة كلّ أبناء البلدة وفي غياب الأمير، فتركت الملجأ وعدت إلى البيت.
للأمير المجهول قصره، ولذاكرتي قصور، ولكن ماذا أقصد بكلمة "قصور"، هل أقصد أن أقول: أكثر من قصر، أم أعني تقصير الذاكرة وعجزها عن الاحتفاظ بما فيها. لا شكّ في أنّ القصر تغيرت صوره مع تغيّر الزمن والمقيمين فيه وعدد القذائف التي دمّرت أجزاء منه، ولكنّني في الوقت نفسه أخشى أن تقصّر ذاكرتي عن الاحتفاظ بهذه الصور كلّها متى هدم القصر، وارتفع بناء آخر لا علاقة له بالماضي.
ليتهم يتركون أشجار السرو! فأشجار السرو حارسة الموتى في بلادنا.
هناك تعليق واحد:
الله ، كم أنت لبنانية!!!
إرسال تعليق