كيف يصدّق عاقل في العالم كلّه ادّعاء إسرائيل أنّ التبّولة من مأكولاتها الوطنيّة وليست بالتالي لبنانيّة؟ فالعقل والمنطق لا يمكن أن يقبلا أنّ مجتمعًا أحاديّ الطائفة والرؤية والتفكير، يستطيع أن ينتج "أكلة" فيها كلّ هذا التنوّع، التنوّع نفسه الذي ينسجم مع طبيعة الكيان اللبنانيّ.
ولا أظنّ أحدًا يجهل المكوّنات المتنوّعة النكهة واللون والانتماء لصحن التبّولة وما يتفنّن اللبنانيّون في الإضافة عليه بحسب أذواقهم وما يخترعونه من وسائل مكمّلة لتناول هذا الطبق ذي الأهميّة القصوى على مائدتنا الوطنيّة، ما جعل الأخوين رحباني يشيران إليه في عملهم الفنيّ "حكاية الإسوارة"، إذ تأتي مجموعة من الصبايا إلى دكّان القرية لشراء الأغراض رغبة في تحضير "التبّولة" بناء على رغبة العريس المحتمل.
البقدونس والنعناع والبرغل والزيت والبندورة والبصل والحامض والملح والبهار مكوّنات أساسيّة، تخلط بطريقة خاصّة بكلّ طاهٍ أو طاهية، وبكلّ سيدة منزل، وبمقادير لا تخضع لقانون أو عُرف أو شروط، لتؤلّف نوعًا من الطعام يؤكل بأساليب مختلفة، ففي حين يفضّل بعضهم تناول التبّولة بالشوكة على عادة الغربيّين في تناول طعامهم، لا يقبلها آخرون إلاّ مع أوراق الخسّ أو الملفوف أو ورق العنب لا بل إنّ كثيرين لا يأكلونها إلاّ بالخبز. وهناك من السيّدات من يضيف إليها عصير الحصرم أو حبّ الرمّان الحامض أو سواها من الموادّ ما يوحي بأنّ هذا الطبق قابل للحذف والإضافة والتعديل، بحسب المزاج والرغبة والذوق وما هو متوفّر من حواضر البيت وتوابله. وصحن التبّولة هو الوحيد الذي يسمح لبعض الثائرين بشرب ما يتبّقى فيه من عصير، وذلك من الصحن مباشرة وفي ذلك ما لايخفى من التحدّي لآداب المائدة. ولكنّ لصحن التبّولة حصانة لا تعطى لغيره. أليست هذه التركيبة الكيميائيّة الغريبة العجيبة القابلة للتعديل كلّما دعت الحاجة أو تغيّر الذوق العام هي صورة طبق الأصل عن التركيبة اللبنانيّة ذات الثماني عشرة طائفة لكلّ منها نكهة وطعم ولون؟
من السهل أن يثبت اللبنانيّون أنّ ثمّة أمورًا لا يمكن لغيرهم أن يخترعها أو يؤلّفها أو يركّبها أو يخربها أو يستفيد منها أو يفتخر بها، والتبّولة واحدة من هذه الأمور. فلا شكّ في أنّ أوّل صحن تبّولة كان كناية عن عربون اتفاق بين أكثر من منطقة لبنانيّة تخضع كلّ واحدة منها لطائفة أو مذهب، إذ أتى ممثّلو هذه الطوائف والمذاهب محمّلين بأشهر ما تنتجه مناطقهم ووضعوه على طاولة الحوار عربون محبّة وسلام وحسن نيّة، فوصل أحدهم من البقاع حاملاً البرغل، وجاء الآخر من الشمال حاملاً الزيت، وجاء ثالث من الجنوب حاملاً الليمون الحامض، وهكذا إلى آخر الممثّلين، وحين وصل الطاهي راعي هذا اللقاء خلط هذه المكوّنات ليفرض الوحدة الوطنيّة وقال لكلّ واحد منهم: تذوّق ما أشهى هذه التركيبة. وبالفعل اكتشف المندوبون إلى لقاء الحوار الوطنيّ أنّ التبّولة نتيجة رائعة: فهي طيّبة المذاق، ومغذيّة وصحيّة، ومثيرة للشهوة، تصلح للأغنياء والفقراء، وتساعد المناطق اللبنانيّة كلّها على تسويق إنتاجها، وفي هذا ربح للجميع، فضلاً عن أنّ هذا الطبق الواعد يمنع الاحتكار والانعزال والتقوقع إذ لا تستطيع منطقة أن تنتجه وحدها ومن دون المكوّنات الموجودة حصريًّا في المناطق الأخرى. وهكذا ظهرت "التبّولة" لتتوّج المصالحة الوطنيّة وتكلّل مائدة الحوار بالشهيّ المفيد.
قد يسأل خبيث بينكم: ومتى كان ذلك؟ والجواب سهل: في أيّ مرحلة من تاريخ لبنان المتخم بالصراعات والمصالحات. فكيفا قلّبنا صفحات تاريخنا سنجد حتمًا لقاء وطنيًّا جمع زعماء المناطق والطوائف للاتفاق على صيغة عيش مشترك.
وأخيرًا وليس آخرًا، ولمزيد من المعلومات التي تنفي الادّعاء الإسرائيليّ، نذكّر بما ورد في "معجم الألفاظ العاميّة" (اللبنانيّة طبعًا) للأديب اللبنانيّ الراحل أنيس فريحة ( وهو دكتور في الفلسفة وأستاذ اللغات الساميّة في الجامعة الأميركيّة)، إذ ترد كلمة "تبّولة" بعد فعل "تبّل" وكلمة "متبّل" (وهي أيضًا أكلة لبنانيّة سرقتها إسرائيل)، وفعل تبل بحسب المعجم قد تكون فارسيّة أو آراميّة، ولم يُذكر أنّها عبريّة.
*****
نستطيع أن نلهي أنفسنا ونضع مئة سيناريو لاختراع "التبّولة" اللبنانيّة، ولكنّ إسرائيل لا تلعب في مثل هذه الأمور وسرقة التراث ليست بالأمر الجديد عليها، ومحو الذاكرة من اختصاصها. ونحن لم ننس بعد البرتقال الفلسطينيّ الذي اختفت أشجاره عن الأرض ولم تبق رائحة زهره إلاّ في شعر محمود درويش، فلنسرع ولنكتب الشِعر عن أمّهاتنا وهنّ "يجبلن" التبّولة قبل أن ترحل الأمّهات وقبل أن يُسرق الصحن من أمام أعيننا.
ولا أظنّ أحدًا يجهل المكوّنات المتنوّعة النكهة واللون والانتماء لصحن التبّولة وما يتفنّن اللبنانيّون في الإضافة عليه بحسب أذواقهم وما يخترعونه من وسائل مكمّلة لتناول هذا الطبق ذي الأهميّة القصوى على مائدتنا الوطنيّة، ما جعل الأخوين رحباني يشيران إليه في عملهم الفنيّ "حكاية الإسوارة"، إذ تأتي مجموعة من الصبايا إلى دكّان القرية لشراء الأغراض رغبة في تحضير "التبّولة" بناء على رغبة العريس المحتمل.
البقدونس والنعناع والبرغل والزيت والبندورة والبصل والحامض والملح والبهار مكوّنات أساسيّة، تخلط بطريقة خاصّة بكلّ طاهٍ أو طاهية، وبكلّ سيدة منزل، وبمقادير لا تخضع لقانون أو عُرف أو شروط، لتؤلّف نوعًا من الطعام يؤكل بأساليب مختلفة، ففي حين يفضّل بعضهم تناول التبّولة بالشوكة على عادة الغربيّين في تناول طعامهم، لا يقبلها آخرون إلاّ مع أوراق الخسّ أو الملفوف أو ورق العنب لا بل إنّ كثيرين لا يأكلونها إلاّ بالخبز. وهناك من السيّدات من يضيف إليها عصير الحصرم أو حبّ الرمّان الحامض أو سواها من الموادّ ما يوحي بأنّ هذا الطبق قابل للحذف والإضافة والتعديل، بحسب المزاج والرغبة والذوق وما هو متوفّر من حواضر البيت وتوابله. وصحن التبّولة هو الوحيد الذي يسمح لبعض الثائرين بشرب ما يتبّقى فيه من عصير، وذلك من الصحن مباشرة وفي ذلك ما لايخفى من التحدّي لآداب المائدة. ولكنّ لصحن التبّولة حصانة لا تعطى لغيره. أليست هذه التركيبة الكيميائيّة الغريبة العجيبة القابلة للتعديل كلّما دعت الحاجة أو تغيّر الذوق العام هي صورة طبق الأصل عن التركيبة اللبنانيّة ذات الثماني عشرة طائفة لكلّ منها نكهة وطعم ولون؟
من السهل أن يثبت اللبنانيّون أنّ ثمّة أمورًا لا يمكن لغيرهم أن يخترعها أو يؤلّفها أو يركّبها أو يخربها أو يستفيد منها أو يفتخر بها، والتبّولة واحدة من هذه الأمور. فلا شكّ في أنّ أوّل صحن تبّولة كان كناية عن عربون اتفاق بين أكثر من منطقة لبنانيّة تخضع كلّ واحدة منها لطائفة أو مذهب، إذ أتى ممثّلو هذه الطوائف والمذاهب محمّلين بأشهر ما تنتجه مناطقهم ووضعوه على طاولة الحوار عربون محبّة وسلام وحسن نيّة، فوصل أحدهم من البقاع حاملاً البرغل، وجاء الآخر من الشمال حاملاً الزيت، وجاء ثالث من الجنوب حاملاً الليمون الحامض، وهكذا إلى آخر الممثّلين، وحين وصل الطاهي راعي هذا اللقاء خلط هذه المكوّنات ليفرض الوحدة الوطنيّة وقال لكلّ واحد منهم: تذوّق ما أشهى هذه التركيبة. وبالفعل اكتشف المندوبون إلى لقاء الحوار الوطنيّ أنّ التبّولة نتيجة رائعة: فهي طيّبة المذاق، ومغذيّة وصحيّة، ومثيرة للشهوة، تصلح للأغنياء والفقراء، وتساعد المناطق اللبنانيّة كلّها على تسويق إنتاجها، وفي هذا ربح للجميع، فضلاً عن أنّ هذا الطبق الواعد يمنع الاحتكار والانعزال والتقوقع إذ لا تستطيع منطقة أن تنتجه وحدها ومن دون المكوّنات الموجودة حصريًّا في المناطق الأخرى. وهكذا ظهرت "التبّولة" لتتوّج المصالحة الوطنيّة وتكلّل مائدة الحوار بالشهيّ المفيد.
قد يسأل خبيث بينكم: ومتى كان ذلك؟ والجواب سهل: في أيّ مرحلة من تاريخ لبنان المتخم بالصراعات والمصالحات. فكيفا قلّبنا صفحات تاريخنا سنجد حتمًا لقاء وطنيًّا جمع زعماء المناطق والطوائف للاتفاق على صيغة عيش مشترك.
وأخيرًا وليس آخرًا، ولمزيد من المعلومات التي تنفي الادّعاء الإسرائيليّ، نذكّر بما ورد في "معجم الألفاظ العاميّة" (اللبنانيّة طبعًا) للأديب اللبنانيّ الراحل أنيس فريحة ( وهو دكتور في الفلسفة وأستاذ اللغات الساميّة في الجامعة الأميركيّة)، إذ ترد كلمة "تبّولة" بعد فعل "تبّل" وكلمة "متبّل" (وهي أيضًا أكلة لبنانيّة سرقتها إسرائيل)، وفعل تبل بحسب المعجم قد تكون فارسيّة أو آراميّة، ولم يُذكر أنّها عبريّة.
*****
نستطيع أن نلهي أنفسنا ونضع مئة سيناريو لاختراع "التبّولة" اللبنانيّة، ولكنّ إسرائيل لا تلعب في مثل هذه الأمور وسرقة التراث ليست بالأمر الجديد عليها، ومحو الذاكرة من اختصاصها. ونحن لم ننس بعد البرتقال الفلسطينيّ الذي اختفت أشجاره عن الأرض ولم تبق رائحة زهره إلاّ في شعر محمود درويش، فلنسرع ولنكتب الشِعر عن أمّهاتنا وهنّ "يجبلن" التبّولة قبل أن ترحل الأمّهات وقبل أن يُسرق الصحن من أمام أعيننا.