يوم تضيق الدنيا بالإنسان، وتخلو جيبه من ثمن عشاء أولاده، يجد نفسه مجبرًا على البحث عن اللقمة في أيّ مكان، وبأيّ وسيلة، ومهما كان الثمن. فالكرامة وعزّة النفس والأنفة تمسي كلمات جوفاء لا معنى لها ولا قيمة لأنّها لا تسدّ جوعًا ولا تدفئ مقرورًا.
على طرقات لبنان الرئيسيّة، وعندما يزدحم السير، تهجم مجموعة من الرجال والنساء والأطفال على السيّارات المتلاصقة ليطلبوا من سائقيها أو سائقاتها المال: فيهم المتسوّل، وفيهم المريض المعوّق، وفيهم العجوز الذي تدلّت من عنقه لوحة من الورق المقوّى تعلن أنّ أولاده طردوه من البيت ويطلب ثمن ربطة خبز، وفيهم بائع العلكة، وبائع قناني المياه الباردة، وبائعو الساعات والمحارم الورقيّة وكلّ ما خفّ حمله وخطر على بال أحد هؤلاء فسبق الآخرين إلى بيعه. أمّا الصغار فيحاولون تنظيف السيّارات بخِرق متّسخة لكثرة ما استعملت ما يحوّل الزجاج بقعًا كبيرة من الخطوط السوداء، فيعلو صراخ السائقين ويرتفع زعيق الزمامير، لعلّ الأولاد يبتعدون. أمّا آخر ما تفتّقت عنه عبقريّة الحاجة فهي: التبخير! فعلى تقاطع الطرقات الرئيسيّة قبل فرن الشبّاك في ضاحية بيروت ثمّة كهل يحمل مبخرة ويتجوّل بين السيارات عارضًا على من فيها أن يبخّرهم من صيبة العين ولطرد الأرواح الشريرة. يبدو المشهد غاية في السورياليّة ما يجعلنا نحن الناظرين إليه نتساءل إن كان ثمّة كاميرا خفيّة ترصد ردود فعل الناس. ولكن الرجل المندفع في عمله والذي يحاول الاستفادة من توقّف السير عند الإشارة الضوئيّة ليبخّر أكبر عدد من الزبائن لا يعير تساؤلاتنا شأنًا. تواطأ الجميع في ما بدا لهم لعبة أو مزحة أو حالة جنون، فمنهم من كان يضحك ومنهم من كان يطرح عليه الأسئلة مستفهمًا وهو يستعجل الانصراف قبل أن تنطلق السيّارات. سائق سيّارة الأجرة التي كنت فيها، سألني أو سأل نفسه في صوت مرتفع إن كان ما يراه واقعيًّا ثمّ استطرد: الناس جنّوا بهالبلد!
هل هو جنون أن تبيع الناس دخانًا أبيض يتصاعد من مبخرة تراثيّة؟ ربّما، وربّما هي الحاجة، وربّما هو الاحتيال، غير أنّ أحدًا لن ينكر على الرجل إبداعه عندما خطرت على باله فكرة التبخير في بلد يؤمن أكثر من فيه بالكواكب والنجوم والأبراج والتبصير وفكّ المكتوب والشعوذة وصيبة العين والحسد والخرزة الزرقاء، ولا تخدعنّكم كثرة الكنائس والمساجد والمزارات، فالاقتتال الطائفيّ والمذهبيّ الذي خبرناه ونخشى عودته لا علاقة له طبعًا بالإيمان. الأخوان رحباني في مسرحيّة "المحطّة" جعلا "فيلمون وهبي" يبيع دخّان القطار المنتظر في القدّاحات، فلماذا لا يبيع الرجلُ الناسَ وهمَ الخلاص من الشرّ بحركة بسيطة من المبخرة؟
يحتار الناس في التعامل مع البائعين المتجوّلين ومع المتسوّلين بين الحذر والريبة والشعور بالشفقة والرغبة في المساعدة. أكثر الناس يعتبر هؤلاء جواسيس وعملاء ومحتالين فيرفض إعطاءهم أيّ مبلغ، ولكن ثمّة من يتبرّع ليريح ضميره وخصوصًا بعد الخروج من مطعم فاخر أو بعد شراء أغراض ثمينة، كأنّ هؤلاء يحاولون إرضاء الكون ليغضّ الطرف عن إسرافهم في الطعام والشراب والتسوّق. أمّا التجاهل الذي يأتي بعد الحركة العفويّة في إقفال السيّارة من الداخل ورفع الزجاج فهو الحلّ الملائم للكثيرين: لم نر ولم نسمع، ننظر إلى الأمام، نتابع الحديث على الهاتف أو مع من معنا، نغيّر المحطّة الإذاعيّة وندعو الله كي يتغيّر لون الإشارة قبل أن تصل تلك المرأة العجوز وتحرجنا.
لا نعلم عمّا سيتفتّق ذهن الناس بعد ذلك، ولكنّ بلدًا لا يمنع التسوّل بتأمين حاجات الناس ولا يؤمّن شيخوخة الناس ولا يردع المحتالين لا يستطيع أن يحرم الناس من وهم الدخان الأبيض في حين أنّ كلّ ما حولهم دخان أسود.
هناك تعليقان (2):
أغلى السلع في العالم هي الأقل قيمة: الشعوذات, الأكاذيب, المجاملات, النفاق. وغيره مما خف وزنه, وزاد ضرره. هذه المنتجات رخيصة في التسويق ولكنها مكلفة في الإنتاج, ولا يستطيع إبداعها إلا القلة.
بالنسبة لبائع الدُخان, فـ هيك زباين, بدهم هيك تاجر, أهنئه.
لذلك يا صديقي تسجّل كتب الأبراج والطبخ أعلى نسبة مبيعات في معارض الكتب
إرسال تعليق