"العودة إلى البيت".
يختلف وقع هذه العبارة بين مجتمع وآخر، وبين مستوى اجتماعيّ وآخر. ففي اللغة الإنكليزيّة مثلاً قد تعني العودة إلى البيت العودة إلى حضن الوطن، أو البلدة، أو العائلة. وفي اللهجة اللبنانيّة ثمّة من يستعمل تعبير "يا بيتي" لوصف الشخص المحبوب، وهو في ذلك يشبه قولنا يا حبيبي، أو يا حياتي أو يا عيوني.
الأثرياء الذين يملكون أكثر من منزل ليس لهم بيت، أو عليهم أن يحدّدوا أنّ ثمّة منزلاً معيّنًا من منازلهم هو البيت الذي يقول العائد إليه عند نهاية النهار: أخيرًا، أنا في البيت. لذلك فالشقق المفروشة، والشاليهات على البحر أو في الجبل والمنتجعات والفيلاّت والقصور في أكثر من بلد والتي تُقصد نادرًا ليست "البيت" الذي فيه ذكريات المناسبات وألبومات العائلة ووشوشات عالقة على حيطان العمر. أمّا من لا بيت له فمقيمٌ دائمٌ على أبواب الغربة ومسافر أبديّ على رياح القلق. ولذلك تغنّي فيروز في أغنيّة رحبانيّة عنوانها "أقول لطفلتي": عندي بيت وأرض صغيرة فأنا الآن يسكنني الأمان.
كان البيت قديمًا امتدادًا للأرض. موادّ بنائه من تربتها، ولونه من لونها، وحجارته من صخورها، وشرفته أرض لا حدود لها تمتدّ حوله وتحيط به، ونوافذه إطلالات على مشاهد لا تشبه نفسها ولو ظُنّ عكس ذلك وسطحه بساط طائر يصل الأرض بالسماء ولا مسافات أو حواجز تمنع أن تقطف اليد نجوم الليل، لذلك لم تكن البيوت تضيق بأهلها مهما صغرت مساحتها وقلّت غرفها. أمّا حين عربشت الشقق فوق أكتاف بعضها وحاولت أن تنطح السحاب تعلّم الإنسان كيف يدوس على أكتاف غيره ليرتقي إلى مجد لم يكن ليطاله لولا أنّه ناء بثقله على سواه. حينذاك صغرت البيوت على أصحابها الذين صاروا يطمعون بمنازل يكثر عددها وتقلّ الزيارات إليها.
حين كانت البيوت تتجاور كانت الأبواب مفتوحة وعلى العتبات تجلس النساء وأمام الدُور يلعب الأولاد، كان التمدّد الأفقي للقرى والبلدات يبقي الجميع على صلة بالأرض والآخر، وفي مثل هذه المجتمعات لم يكن من السهل أن يغادر المرء مكانه. وحين وقع "التمدّد" العاموديّ، أي حين قلّت مساحة الأرض وارتفع البناء عاليًا، وارتفع بالتالي سعر الشقق مع ازدياد عدد الطبقات، صار الإنسان كلّما ارتقى درجة أو طبقة يقطع علاقته بالتراب وصار الهواء ملعبه يطير به أنّى شاء وكيفما شاء، ولكنّ أديبنا الكبير الروائيّ يوسف حبشي الأشقر عَنْوَنَ روايته الرائعة بالنفي التالي: لا تنبت جذور في السماء. وأضيفُ أنا: ولا أجنحة كذلك، فكيف إذا كانت من الشمع! في الشقق المقيمة فوق بعضها تقفل الأبواب، ويختفي الناس خلفها، وتخفت أصوات الأولاد، وخطوة القَدَم التي كانت على الأرض هدّارة كما في أغنية لفيروز صارت هادئة تتنقّل في حذر كي لا يشكو الجيران أمرها إلى رجال الشرطة، وشتّان ما بين هدوء هذّبته مدنيّة تخلط بين الخبث والاحترام، وهدير كموج البحر أو كعصف الريح يؤكّد أنّ الحياة حركة. في الشقق التي تتراكم في ضيق المساحات، تغلق الأبواب، ويختفي الناس في قوقعتها، ليتحوّل ما يعتبرونه خصوصيّةً عزلةً تعيش فيها شتلات استُقدمت لعلّها تؤنس وحشة المنعزلين، فإذا بها تنشغل بالاشتياق إلى المطر والهواء والشمس والعصافير والفراشات. في الشقق التي تعلو عن صدر الأرض حيطان هشّة، وطلاء ملوّن كزينة الوجه التي تفضح بنات الهوى، ونوافذ ليست منافذ بل حواجز.
لا تشتروا اللوحات التي تصوّر البيوت وتعلّقونها على جدران ليست ملككم، ولا تؤلّفوا قصائد عن الحنين إلى الأرض التي هجرتموها، بل امتلكوا الأرض وابنوا البيت لئلّا يقيم فيكم الهوان.
***
* العنوان مستوحى من أغنية للأخوين رحباني وتغنّيها فيروز عنوانها: أقول لطفلتي،
وفيها:
عندي بيت وأرض صغيرة فأنا الآن يسكنني الأمان
هناك تعليقان (2):
ولأن موضوع (البيت/الوطن) قد "عربش" بقلبك طلعت منك معاني وصور رائعة، وكان لفيروزــ حفظها الله ــ نصيب اهل الطرب من بيت الأدب. عافاكما
اختيار فعل "عربش" يجمع بين الذكاء والمحبّة. شكرًا
إرسال تعليق