الثلاثاء، 5 أكتوبر 2010

الخوف عليك يا ممتلئة ضجيجًا






الأحد صباحاً: تتذكّرين بيتًا من الشعر للياس أبو شبكة: أسمع في الوادي رنين الجرس/ يذيب روح الله في المتعبين. تفكّرين: أنا تعبة. تبحثين عن الرنين صبيحة الأحد فلا تجدينه، تقتحم أذنيك أصوات كثيرة تجعلك لا تعرفين متى وضع قندلفت الكنيسة تسجيل صوت الجرس وهو الحلّ البديل الذي ابتدعه المسيحيّون بعدما هاجر شبّان كانوا يتبارون في قرع الجرس. لا تعرفين كم الساعة وإن كان القدّاس قد اقترب موعده أو فات. تحاولين الدخول إلى عالمك الداخليّ لعلّك تجدين الصمت الذي انتظرته طوال الأسبوع فتجدين أنّ داخلك يحتاج، كي يتطهّر من الضجيج المتراكم، إلى أكثر من هذه الهنيهات الصباحيّة المفترض أن تكون أقلّ صخبًا. حتّى صوت أناملك على لوحة المفاتيح في جهاز اللابتوب يبدو إزعاجاً في غير أوانه. ولكنّك تحتاجين إلى الكتابة، لا لأنّك تعتاشين منها، بل لأنّها دواؤك الذي أدمنته.
جارك يصلح موتور سيّارته ويستعين بقاموس من الشتائم يوزّعها بحسب ما يصادفه من صعوبات تقنية لا خبرة له فيها، صوت الراديو عند العمّال في المباني التي تشاد، الدرّاجات النارية توصل طعام الفطور إلى منازل ترغب ربّاتها في الاستمتاع بكسل العطلة، الجنود أنهوا خدمتهم الليليّة ويغادرون إلى بيوتهم بسيّاراتهم السريعة القديمة وهم يستمعون إلى أغنيات حديثة لا كلمات فيها ولا نوطّات، بل نطنطات تتضاعف بشاعتها عند الوصول إلى مطبّات وضعتها البلديّة لتخفيف السرعة، فصارت حاجزاً طيّاراً يفاجئ السائقين عشرات المرّات في النهار فتزعق أصوات الفرامل وتضيع منك بعض كلمات من أغنيات سخيفة. يفاجئك تغريد عصفور نجا حتّى اللحظة من بندقيّة قنّاص، فترغبين في الاستسلام لصوته يشاركك بحثك عن السكينة وفجأة يوقظك من حلمك صوت رصاصة تنطلق من بندقيّة صيّاد يكمن تحت الدالية، مستفيداً من غياب الدولة صباح الأحد وهي تستريح في اليوم السابع من تنظيم الوطن، ويصمت العصفور صمتاً نهائيّاً لا أحد إلاّك يعيره اهتماماً. تلاحظين صوت مضخّة المياه عند جار آخر تعيد ملء الخزان على السطح كلّما نقص، وصوت الهاتف يرنّ عند جيران آخرين ولا أحد يجيب، وصوت العربة يجرّها عامل التنظيفات الغريب، تنظرين إلى الساعة أمامك على الشاشة فتجدين أنّها لم تتجاوز الثامنة صباحاً. عيناك تريدان الراحة، فأنت لم تنامي ليلة البارحة، بسبب حماوة ليلة السبت بحسب جون ترافولتا: من أحد المنازل المجاورة استمعت إلى نشرات الأخبار، نتفاً نتفاً بحسب سرعة أصابع جارك على آلة التحكّم. انتقلت إلى غرفة أخرى في المنزل لتهربي من صراخ السياسيين ومحاولات مقدّمي النشرات الإخباريّة تلوين أصواتهم بما يلائم مواقفهم فتذكّرت مذيعي الحرب ومذيعاته: عرفات حجازي، جاك واكيم، سعاد قاروط العشّي، وقلت في نفسك كأنّنا في نسخة جديدة لحرب قديمة. في المنزل إلى الجهة الأخرى، بدأت حفلة الزجل، تعرفين أنّ الشعر فيها قليل والموسيقى هي الباقية، رداء جميل فوق جسم مريض. عند منتصف الليل، وحين خيّل إليك أنّ الهدوء قد يحلّ أخيراً، تجمّعت أمام منزل آخر أفواج الساهرين الذين تبدأ أعمارهم من سنّ الثالثة عشرة. كانوا يصخبون ويتحدّثون على هواتفهم ليستعجلوا من تأخّر منهم، تصرخ بهم واحدة: بكّير، بعد ما بلّشت السهرة. تصطفّ عشرات السيارات من تلك الرباعيّة الدفع التي تخيف ولا تخاف، تنتظم في موكب واحد وإلى السهرة در. في غيابهم وصلتك أصوات الطبل والزمر من سهرة عرس في نادٍ يشرف على منزلك من تلّة استراتيجيّة، صرت تميّزين سبتاً بعد آخر الأغنيات التي تطلب أكثر من سواها وتقرّرين أن تسألي عمّن يؤدّيها، فأنت لا تعرفين أسماء المغنين والمغنيات الجدد لأنّ الزمن توقّف بك عند فيروز وصباح ووديع الصافي وسلوى القطريب. يطير النوم من عينيك، تحاولين أن تفكّري بإيجابيّة فتقولين لنفسك: إفرحي مع الفرحين، الآن صار في إمكانك أن تنامي وتستمتعي بصبيحة الأحد الهادئة. قبل الفجر توقظك أصوات العمّال وهم يتوضؤون للصلاة، ومع شروق الشمس يصل الجيل الشابّ الذي كان ساهرًا على مصلحة البلد، وتتذكّرين أنّ سيناريو صبيحة الأحد سيتكرّر. وما بين صلاة الفجر وموعد القدّاس ستكونين قد أدّيت واجبك المدينيّ من سبحة الشتائم التي لن تساعدك حتمًا على إدخال السكينة إلى داخلك الممتلئ ضجيجاً.
تحت الدوش الصباحيّ، تجدين بعض هدوء كنت تصلين إليه عبر صوت فيروز الذي صار يذكّرك بصراع عائليّ تمنّيت لو لم تتابعي أخباره. لا صوت إلاّ المياه الآن، تبدأين بها حارّة لتطهّرك، ثم تحوّلينها شيئًا فشيئًا باردة لتهدّئ ثورتك قبل أن يصير الخوف منك لا عليك، قبل أن تنفجري فتتطاير أشلاؤك سيّارات محرتقة وجرّافات هادرة وحفّارات لئيمة وشاحنات عسكريّة وأبواق مسيّسة وهواتف راقصة وتلفزيونات وقحة وأغنيات سخيفة، وتسألين نفسك وأنت تحت رذاذ حمّامك الصباحيّ قلقة من أن تنقطع المياه فجأة: ما الذي يبقيك حيث الضجيج، في هذا البلد الذي فيه الحركة بلا بركة والكلام فجور يجرّ الويل وعظائم الأمور أمّا صمته البليغ فيقيم هانئاً بين القبور.
* جريدة النهار - الثلثاء 5 تشرين الأوّل 2010

هناك 4 تعليقات:

شهرزاد الحكايات يقول...

ما أحلى وأجمل صباح صوت فيروز .. يجعلنا في عالم آخر .. صباح جميل وأصيل مع الطرب الأصيل .. تحياتي لك وتقبلي مروري

ماري القصيفي يقول...

أشكر لك يا شهرزاد مرورك وتحيّاتك، وأتمنّى أن تكون صباحاتك فيروزيّة دائمًا.

fr. Hanna يقول...

صوت فيروز لا يذكرني إلا بصوت فيروز، أما تلك الخلافات وتوابعها القانونية فهي أمر طبيعي، وحقوق اشخاص على أشخاص، نتمنى لها خواتم سعيدة.

Fr. Hanna يقول...

تعلمين آنسة ماري، يعجبني كثيرا هذا الإسلوب الجميل والفريد في قلمك، تأخذين المادة اليومية وتحولينها إلى أدب يقرأ أكثر من مرة، في خبرة كتابية علمتك وصقلت موهبتك. لا أبالغ، إن قلت إنك هنا تسمعين ما لا يسمع أحد كل يوم. استعيد قصة شاب هندي كان يتمشى في إحدى شوارع نيويورك المزدحمة سامعا صوت حشرة تغني على غصن شجرة. جن صديقه الأميركي عندما أعلمه الأمر، فكيف يسمع ذلك في ضجيج نيويورك وصخبها. أجابه الهندي: المشكلة في أي نوع من الآذان نملك.

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.