المنارة - بيروت
القاع - البقاع
القاع - البقاع
الأرز
حمّانا
عمّيق
يبقيني في هذا الوطن عجزي عن مغادرته. ولعلّني في أعمق مكان من داخلي أحسد الذين لم يعجزوا وغادروا واستقرّوا حيث هم وإن بقي حنين ما يلتفّ حول قلوبهم يؤرق سكينتها ويحلمون في عزّ نومهم الهانئ بالوطن الذي أجبرتهم ظروفه على الرحيل عنه.
لربّما أنا عاجزة عن احتمال هذا الحنين، الحنين نفسه الذي أشعر به وأنا هنا أراقب كيف يتغيّر هذا الوطن ليصير ما لم أبق من أجله.
لا نحن الباقين هنا مرتاحون، ولا الذين هاجروا مرتاحون من همّ هذا الوطن الذي يلاحقون أخباره في الصحف وعبر القنوات الفضائيّة ورسائل المقيمين. كلّ واحد منّا مشدود إلى نقيضين وإن صار العالم قرية كونيّة صغيرة: أن يكون غريبًا في وطنه أو مواطنًا في مغتربه. وفي الحالين ينقصه شيء. هي حال المهاجرين من بلادهم إلى أيّة جنسيّة انتموا، ومنذ بدأ الإنسان رحلة البحث عن مكان يتّسع لأحلامه وطموحه ويؤمّن له الاستقرار ويحفظ له الكرامة ويساعده على حماية إنسانيّة قد يفقدها إن بقي حيث هو. كثيرة أسباب الهجرة، درسناها مذ كنّا على مقاعد الدراسة، وتفنّن واضعو كتب التاريخ والجغرافيا في تبريرها والتأكيد على فائدتها. وفي كلّ مرّة يؤتى فيها على ذكر الهجرة وأسبابها ونتائجها يحلم المعلّم بالرحيل ويرحل التلاميذ خلف تأشيرات دخول إلى بلدان تتيح لهم تحقيق أحلامهم.
أنا الباقية في هذا الوطن، أحلم كملايين المواطنين سواي، بأن يأتي يوم أرتاح فيه من هذا الانفصام في داخلي بين الحلم بمكان جميل وهانئ وآمن ومنظّم أرحل إليه ولا أعود، وبين البقاء في هذا البلد الذي تفترسه البشاعة والمخاوف والهواجس والفوضى. وهذه معاناة يوميّة: فيوم في ازدحام السير الخانق يجعلني أتمنّى الرحيل، ويوم في جبل ساكن يطمئنني إلى أنّني خيرًا فعلت بأن بقيت. ويوم في إتمام معاملة رسميّة يجعلني ألعن الساعة التي بقيت فيها في هذا البلد، ويوم من المشي في جبل الباروك يجعلني شامتة بكلّ الذين هاجروا ويقبعون وحيدين في بيوتهم التي لا يزورها أحد. ويوم في وادي قنّوبين يطمئنني إلى أنّني كنت أمينة لالتزامي بهذا الوطن ولحظة عند حاجز أمنيّ تعيدني إلى الندم لأنّني لم أرحل يوم كان الرحيل متاحًا.
الجحيم هو هذا الشرخ، هذا التقلّب بين يوم من النزعة الوطنيّة التي تجعلني أختار هذا الـ "لبنان" بحسناته وسيّئاته، ويوم من النقمة على كلّ ما صار يمثّله هذا الـ "لبنان" من خبث ورياء ونميمة وبشاعة وإذلال. حتّى صار كلامنا نفسه مقسومًا بين مقدّمة تشتم الوطن، وصلب موضوع يحاول فهم ما جرى له، وخاتمة تريد أن تكون سعيدة بهذا الكيان الذي كوّن من مشوار قلم على دروب الورق.
خلال الحرب، كانت الأمّهات يجبرن أنفسهنّ على تشجيع أولادهنّ على السفر لئلاّ يُساقوا إلى التدريب العسكريّ تفرضه ميليشيات حاكمة، ثمّ إلى الاقتتال والمعارك العبثيّة. وكان الآباء يفضّلون مليون مرّة أن يوصلوا أولادهم إلى المرفأ أو إلى المطار على أن يوصلوهم إلى المستشفيات أو المدافن. الحرب علّمت الآباء والأمّهات أنّ أولادهم ليسوا لهم، فليكونوا للحياة إذًا ولو بعيدًا عنهم، لا للأحزاب والزعماء والإعاقة والإهانة والموت.
أنا اليوم أمام احتمالات الحرب كما تنذر بها الصحف وتهدّد بها الأحزاب والتيّارات، قرأت الصحف الصادرة في البلد، وزرت المواقع الإلكترونيّة التي تموّلها الدول بالمال ويمدّها السياسيّون بالمعلومات، وشكرت الذين هاجروا حاملين خميرة من هذا الوطن لعلّهم يعيدون تكوينه بعد طوفان نحن مقبلون عليه. هم سفينة نوح لبنانيّة حملوا أجمل ما في البلد وأبهاه وأثمنه وخبّأوه في صدورهم وابتعدوا به في فُلك آمن إلى حيث حفظ الكرامة وضمان السلامة في انتظار لبنان الجديد. ونحن الذين بقينا هنا، حملة المفاتيح، نواطير البيوت المهجورة، كان علينا أن نبقى، خوفًا من مغامرة الرحيل أو التزامًا بأمان البقاء في ما اعتدنا عليه، ليس مهمًّا. ولكن كان علينا أن نبقى لنكون العشب النابت بين شقوق الحيطان المشتاقة في انتظار عودة أهل الدار ليزرعوا الأحواض منتورًا وحبقًا وياسمين.
هناك 3 تعليقات:
للبنان الجميل السلام... و السلام
تحياتي
أولا أعتذر بشدةعن عدم المتابعة الفترة السابقة
لظروف العمل
ثانيا
عندما أرى الصور الموضوعة
و ارى كلماتك المكتوبة
أحس بتلك الغصة و الأحتياج الشديد فى البكاء
على لبنان و على نفسى
من الجائز لا تدركى لماذا
و لكن حبى للبنان كحبى لمحبوبتى
كحبى للحياة
كيف تعلم اللبنانيون تلك القسوة وسط كل هذا الجمال
وسط كل هذا الهدوء الجميل
ربنا معاكى فى حيرتك
ربنا يحافظ على لبنان
رامي وياسين أشكركما على محبّتكما للبنان، وآمل أن ننعم كلّنا بالسلام
تحيّاتي لكما ومودّتي
إرسال تعليق