هل يستطيعان وحدهما إنقاذ الهويّة؟ (عاصي وفيروز) |
من ينقذ هذه الخصوصيّة؟ (صباح ووديع الصافي) |
مقالتي في صحيفة "النهار" – الاثنين 13 شباط 2004
في حزيران المقبل ستحاول الدول الصناعيّة الثماني بلورة موقف موحّد من المشروع الذي أعدّته الولايات المتحدة الأميركيّة تحت عنوان "الشرق الأوسط الكبير". وتسعى واشنطن منذ الآن إلى إقناع الدول الثماني بهذه الرؤية، قبل موعد القمّة المقرّر عقدها في الولايات المتّحدة. ونشرت صحيفة "الحياة" نصّ المشروع الجمعة 13 شباط 2004، وهو لا يفاجئ كثيرًا بمضامينه التي سبق إعلانها مرارًا، تلميحًا وتصريحًا، لكنّ تحوّله مشروعًا متكاملًا يجري العمل على تسويقه هو ما يعطي توقيته أهميّة وآليّةَ العمل المقترحة له.
تعرض مقدّمة المشروع للأسباب التي دعت الولايات المتّحدة إلى وضع تصوّر بناء على المشاكل التي يشكو منها العرب أنفسهم أوّلًا، واستباقًا لما يمكن أن يهدّد السلم العالميّ الذي تريد الولايات المتّحدة أن يكون وفق شروطها ورغباتها. فنقرأ في المقدّمة: "يمثّل الشرق الأوسط الكبير تحديًّا وفرصة فريدة للمجتمع الدوليّ. وساهمت [النواقص] الثلاثة التي حدّدها الكتّاب العرب لتقريريّ الأمم المتّحدة حول التنمية البشريّة العربيّة للعامين 2002 و2003: الحريّة والمعرفة وتمكين النساء، في خلق الظروف التي تهدّد المصالح الوطنيّة لكلّ أعضاء مجموعة الثماني. وطالما تزايد عدد الأفراد المحرومين من حقوقهم السياسيّة والاقتصاديّة في المنطقة سنشهد زيادة في التطرّف والإرهاب والجريمة الدوليّة والهجرة غير المشروعة".
ونذكّر هنا بأنّ الدول المعنيّة بهذا المخطّط هي بلدان العالم العربيّ، فضلًا عن باكستان وأفغانستان وإيران وتركيا وإسرائيل.
Massimo Berruti - Pakistan |
Massimo Berruti - Afghanistan - 2008 |
وتؤكّد قراءة المشروع أنّ الولايات المتّحدة تريد أن تكون معلّمة العالم وقائدته، فتقول للناس في هذه البلدان: لن تأتوا إلينا بعد الآن "كعلاج للهجرة غير المشروعة" بل سنذهب نحن إليكم وسنؤمّن لكم ما تحلمون به، بل سنكون معلّميكم المتفانين في خدمتكم، وستكونون خلال أعوام قليلة نسخة مدروسة عن الشخصيّة الأميركيّة التي تحلمون بها. ويعرض واضعو المشروع المشاكل التي تعانيها شعوب هذه الدول كالأميّة والفقر وغياب التوجيه وفقدان الحريّات العامّة وغيرها، ثمّ يقدّمون الحلول التي يرونها مناسبة، وكلّها تبدأ بتدريب يشرفون هم على دروسه ومعلوماته ويطال التعليم والإعلام والاقتصاد في مختلف وجوهه. أمّا ماذا ستعلّم سكّان هذه الدول وعلامَ سيتدرّبون فهذا ما يقرّره المخطّطون أنفسهم.
تبدو انطلاقة المحطّة التلفزيونيّة الأميركيّة "الحرّة"، وزميلتها الإذاعيّة "سوا" متزامنة مع زرع الخطوط العريضة لهذا المشروع. وإذا كان الإعلاميّون اللبنانيّون تحديدًا والعرب عامّة وجدوا أنفسهم مدفوعين مع انعدام فرص العمل وغياب أجواء الحريّة في دولهم إلى قبول العمل في مؤسّسات تطمح إلى تحسين صورة الولايات المتّحدة الأميركيّة في الدول العربيّة، فإنّ القيّمين على كلتا الوسيلتين لا يريدون سوى غسل دماغ جماعيّ بدأ عبر الأفلام السينمائيّة والتلفزيونيّة والإنترنت ليصل حاليًّا إلى مخاطبة الناس بلغتهم وعبر وجوه وأصوات أليفة.
***
Lost in Ttranslation Bill Murray - Scarlett Johansson |
تحضر هذه الأفكار في قوّة عندما نشاهد الفيلم الأميركيّ "ضائع في الترجمة" للمخرجة الشابّة صوفي كوبولا. فإذا كنّا نريد أن نرى صورتنا المقبلة بعد نجاح هذا المشروع – لا نعرف من سيمنع تحقيقه – فما علينا إلّا أن نسرع إلى مشاهدة الفيلم الذي لن يبقى طويلًا في الصالات اللبنانيّة، نظرًا إلى موضوعه العميق وإيقاعه البطيء، وهذا ما لا يهواه جمهورنا السينمائيّ العريض. اليابان، وهي الدولة الاقتصاديّة الغنيّة، مسرح أحداث الفيلم، ومع ذلك فإنّ النسق الحضاريّ المسيطر هو الأميركيّ المكتسح العالم والفارض لغته ورؤاه. قد تكون اللغة اليابانيّة هي الحاجز الوحيد المتبقّي (الهشّ) قبل أن ننسى أنّنا في اليابان وليس في الولايات المتّحدة (فالعِرق والشكل موجودان في أميركا أيضًا): الملابس والويسكي والإعلانات وبرامج الألعاب التلفزيونيّة والأفلام والأغاني والنوادي والسهرات والعصابات في الشوارع، كلّها أميركيّة الطابع، ولا يبقى من الهويّة اليابانيّة إلّا بعض المعابد الدينيّة التي تزورها بطلة الفيلم من حين إلى آخر فتثير عاطفة آنيّة، ومطاعم نجد ما يشبهها في كلّ مكان في العالم، ولغة مطعّمة بكثير من المفردات الإنكليزيّة غير أنّها لا تقف عائقًا أمام التواصل ما دام الهدف هو العمل والربح الكبير، ذلك فضلًا عن الأغاني والأفلام وهي كلّها محور الحوار. فبطل الفيلم قادر على "التفاهم" مع اليابانيّين الذين لا يجيدون لغته أكثر ممّا هو قادر على ذلك مع زوجته التي لا تعيره اهتمامًا أو ابنته التي ترفض الكلام معه على الهاتف. حتّى في المستشفى حيث أخذ صديقته التي جرحت قدمها، وفي الفندق حيث كانت المغنيّة الأميركيّة قادرة على إثارة جمهور المستمعين ونيل تصفيقهم بصوت شاذ وكلمات سخيفة، لم تكن اللغة مشكلة يستعصى حلّها.
كنت أشاهد الفيلم في الصالة الخالية إلّا من بعض المشاهدين وأقول في نفسي: إذا كانت اليابان ذات الحضارة العريقة والقوّة الاقتصاديّة الهائلة عاجزةً عن عن الاحتفاظ بهويّتها أمام "حضارة" أميركيّة" حديثة، فكيف سيفعل ذلك هذا الشرق الأوسط الذي يبحث منذ زمن عن هويّته الأصيلة؟ ويزداد السؤال إلحاحًا حين نستمع إلى أحد الشبّان اليابانيّين يغنّي في الفيلم أغنية أميركيّة عن القنبلة الهيدروجينيّة، إذ كيف يُعقل أن ينسى أولئك الذين حصدت القنبلة النوويّة أجدادهم الدولةَ التي هزمت بلادهم شرّ هزيمة وبأبشع الوسائل، ويروح يصدح ممجّدًا أغنياتها ولغتها وهو يرتدي لباس أبنائها ويحيا حياتهم؟ هذه الصورة المنقولة تمامًا عن الحياة الأميركيّة هي ما جعلت البطل يجيب في سخرية حين سألته زوجته عن الحياة في اليابان: كلّ شيء مختلف. لكنّه في المقابل اتّفق مع صديقته على ألّا يعودا إلى هناك لأنّ كلّ شيء بشع.
في مشهد من الفيلم: البطل الأميركيّ مع اليابانيّ "المتأمرك" |
***
لا يمكن عاقلًا أن يرفض الأفكار التي يطرحها أيّ مشروع نهضويّ، ولا يسع أيّ إنسان إلّا المطالبة باحترام الحريّات العامّة وحقوق الإنسان، ومحو الأميّة بشقّيها اللغويّ التقليديّ والإنترنت، وإعطاء المرأة دورًا فاعلًا، وإصلاح المناهج التربويّة وتشجيع الترجمة من وإلى اللغة العربيّة، وإصلاح الأوضاع الاقتصاديّة، إنّما حين تريد الولايات المتّحدة أن تفعل ذلك فهذا يعني محو كلّ ما يتعلّق بالهويّات القوميّة والخصوصيّة الحضاريّة لكلّ من هذه البلدان لجعلها صورًا مستنسخة معدّلة الجينات لما تريده للعالم.
المشكلة ليست في ما تريده الولايات المتّحدة، ولا في ما أرادته قبلها دول الاستعمار والانتداب، بل في ما نريده نحن. وإذا كنّا نعرف أنّ إسرائيل لن يضيرها هذا المشروع بل هو خير ضامن لوجودها وبقائها وقوّتها، فكيف ستنظر الشعوب الأخرى المعنيّة إليه؟ هذه الشعوب التي تجد نفسها، في غياب الفكر العلمانيّ الإنسانيّ المتنوّر، بين مطرقة الإغراءات الأميركيّة وسندان الأصوليّات الدينيّة المخيفة، وتحت أنظار حكّام لا يريدون سوى البقاء في السلطة مهما كان الثمن.
في الواقع، لن يقف أحد أمام هذا المشروع، فالدول الثماني التي لم تستطع منع الحرب على العراق ستحصل على حصصها من الأرباح وهذا ما يعنيها لكونها دولاً صناعيّة في الدرجة الأولى، ولا تبحث إلّا عن العمل والربح. وشعوب المنطقة التي لم تحرّك ساكنًا في ظلّ انقساماتها وتضارب مصالحها الآنيّة أمام الحرب على الفلسطينيّين واللبنانيّين والعراقيّين لن تفعل شيئًا أمام التسلّل الأميركيّ الحضاريّ "المسالم". أمّا الولايات المتّحدة فتتعلّم اللغة العربيّة كي تقنعنا بالتخلّي عنها.
منذ زمن قال لنا زياد الرحباني أن نتعلّم اللغة الإنكليزيّة، لأنّ "العربي ما بيفيد" فلم نصدّق، ولكنّنا صدّقنا سعيد عقل حين قال إنّنا كنّا معلّمي معلّمي العالم.
***
يبدأ فيلم "ضائع في الترجمة" بالكاميرا مثبتة على مؤخّرة البطلة الأميركيّة النائمة في فندق يابانيّ فخم، فلم أستطع إلّا أن أرى في ذلك إشارة إلى الولايات المتّحدة التي تدير مؤخّرتها الكبيرة إلى كلّ حضارات العالم ولغاته وخصوصيّاته من دون أن تشعرك بأنّها معنيّة بشيء.
هناك 3 تعليقات:
أعجبني انتباهك ــ وهذه ميزة تنفردين بها عننا نحو الختيارية ــ حين صدّرتي أفكارك النيّرة بصورة من (دار رحبان) في يوم عيد ميلاد حُجْر الصوت وحَجَر العين الكريم فيروز... عافاكم كلكم
مساء الخير..عالم ديناميكي متسارع.والصورة الامريكية تُنسخ في كل مكان..سيدتي بعد وقت لن تجدي سعودي او لبناني ،كويتي او مصري..ستجديننا جميعا عرباً امريكان!!وإن كنت أحيي هذه العقلية الامريكية والتي استطاعت ان تجعل من العالم صورة طبق الاصل من امريكا فكراً و اعتقاداً..إلا أنني انوح على فقدان الهوية العربية والقُطرية.
لم اقرأ المقال وقت صدوره ولكن شكراً لكن لاتاحة الفرصة لنا لقراءة مافاتنا.
إلى وحي من الداخل:
لا نستطيع إلّا أن نحيي قدرة أميركا على فرض صورتها على شعوب العالم، فهي تقوم بما يلائمها، لكن الموضوع هو نحن وما نريده، وكيف سيكون العالم بلا تنوّع حضاريّ؟
شكرًا على مشاركتك
إلى جمال السيّد
لم يترك الرحابنة مجالاً إلّا واقتربوا منه أو عالجوه، لذلك ترانا نستنجد بهم، صورًا وكلمات وموسيقى حين نريد أن نغْني نصوصنا. وهذا فخر لنا
تحيّاتي
إرسال تعليق