Edward Munck (1942- 1940) Between Clock and Bed |
الحريّة ليست غاية نهائيّة يتوقّف عند حدودها السعيّ إلى ما هو أعمق وأجمل، وليست مظهرًا خارجيًّا احتفاليًّا صاخبًا يجتاح الشوارع والدول، وليست بالتأكيد فرصة للاقتراع والانتخاب والتعبير عن الرأي، خصوصًا إن كان هذا الرأي لا يحمل متغيّرات.
أعرف أنّ هذا الكلام لا يحمل جديدًا، لكنّ ما يجري في العالم العربيّ اليوم يدعو إلى التذكير بهذين المفهومين لئلّا تكون حريّة الشعوب العربيّة المنادى بها على مثال حريّة الشعب اللبنانيّ التي وإن كانت جميلة ومغرية ومثيرة وشاعرة فنّانة ومجنونة غير أنّها لم تصلح، كما بيّنت التجربة اللبنانيّة الفريدة فعلًا، زوجةً مؤتمنة على مسؤوليّات بيت وعائلة وأولاد، تشيع الأمان وتضمن الاستقرار.
لم تأت حريّة الشعب العربيّ في أن ينتفض على حكّامه وأنظمتهم الديكتاتوريّة نتيجة مفاهيم في الحريّة الشخصيّة والعائليّة والدينيّة والحزبيّة، بل هي أقرب إلى انفجار غضب لا يعرف أحد ماذا سينتج عنه. وما دام الناس أنفسهم الذين نزلوا إلى الشارع لا يقبلون بالمسّ بـ"مقدّسات" معيّنة فهذا يعني أنّ ثمّة تخوّفًا جديًّا من أن يعيدوا تنصيب أنظمة أخرى تختلف شكلاً عن سابقاتها في حين أنّ مضمونها واحد.
لم يستطع العرب بعد أن يطرحوا على بساط البحث أفكارًا/ مسلّمات محورها تقديس الأجداد والآباء والأمّهات والعائلة والطائفة والحزب والمعلّم ورجل الدين والطبيب ورجل الأمن وصولًا إلى الأرض والوطن، كأنّ ثمّة اطمئنانًا إلى أنّ هؤلاء الذين يملكون سلطة ما قادرون على تأمين الحماية، ولا بأس إن نالوا نصيبًا ولو كبيرًا من مكاسب هذه السلطة. لذلك كانت هناك مخاوف حقيقيّة عند أكثرنا عمّا بعد هؤلاء الزعماء الذين سقطوا الواحد إثر الآخر، ولعلّ بيننا من يتمنّى لو يعودوا ليحمونا من الغامض الآتي الذي لا نعرف له شكلًا. ونحن في ذلك لم نخرج من مفهوم التنظيم القبلي الذي كان يحتكم إلى شيخ القبيلة في كلّ شؤونه ويعرض عليه يوميّاته ولا يمانع في أن يعطيه مكاسب كبيرة من غنائم الغزو. وهذه المخاوف نفسها هي التي تحكم علاقة كلّ واحد منّا بالآخر.
Edward Munch 1895 Death In the Sickroom |
ما زلنا حتّى اليوم وعلى الرغم من التفكّك العائليّ وانحلال روابط الأُسر، غير مستعدين لوضع صور أجدادنا وآبائنا وأمهّاتنا في موضع المساءلة. ويصحّ الكلام نفسه على أزواجنا وأولادنا وأشقائنا وجيراننا وأصدقائنا، وحين نفعل نبدو راغبين في التحرّر تمامًا، أو الانتقاد لمجرّد الانتقاد، أو الانتقام على ما قرّرنا أنّه تقصير أو هيمنة. أمّا أن نضع علاقتنا بهم على بساط البحث النقديّ والتحليل النفسيّ والدراسة الاجتماعيّة فأمر يخيفنا لأنّنا قد نكون نحن أيضًا شركاء صامتين أو متآمرين مخفيين في ترسيخ هذا التقديس والتسويق له، إن عبر اعتبار أنفسنا ضحايا له أو عبر اقتناع، ربّما غير واعٍ، بأنّ هذا أفضل الممكن، وأنّنا ما دمنا إنتاجًا ذكيًّا وناجحًا لهؤلاء الناس، فذلك يعني أنّ نظامهم هو الصحيح، وأفكارهم هي التي يجب أن تسود وتنتشر. ونطرد بالتالي احتمال أنّه كان الممكن أن تكون الأمور أفضل حالًا.
هذا التقديس انسحب على كلّ ذي سلطة (ولو وهميّة) قادر على التأثير على منحيين من حياتنا متلاصقين ومتداخلَين لا منقسمَين مفصولين:
الجسديّ: عبر الاطمئنان لمرأى الطبيب ولو من دون التقيّد بأوامره، والتهرّب من التعرّض لأذى رجل الأمن، والتعلّق بالأرض ملجأ ومأوى ومدفنًا، والارتباط الأعمى بالحزب لاقتناعنا بغياب الدولة المدنيّة،
والنفسيّ: في الرضوخ التامّ لنفوذ رجل الدين، والاحتماء بطائفة تمنحنا نوعًا من الأمان، وتبجيل المعلّم في كونه يعرف أكثر منّا.
والمفارقة هي أنّنا حين نريد أن ننتفض على هؤلاء كلّهم نكتشف أنّنا عاجزون عن إيجاد البدائل فنقع في متاهة الفراغ وعبثيّة الفوضى. وفي هذا الإطار يمكننا أن نضع أكثر حركات الهجرة إلى الغرب الذي فيه ينأى الفرد عن تأثير أهله (وتقديسهم)، وعن ارتهانه للطائفة أو الحزب (وتقديسهما)، وعن دولة تأخذ منه أحلامًا ينشُد إلى تحقيقها وتعطيه في المقابل، بل تفرض عليه، أناشيد يحفظها ويردّدها من مناسباتها الرسميّة.
Edward Munch Puberty - 1895 |
لقد تأخّرت الثورة العربيّة لأنّ الناس حين كانوا يحزمون أمرهم ويقرّرون تغيير شيء ما يقومون بأحد أمرين اثنين: التهجّم على الآخر العاجز مثله لا الهجوم على السلطات الحاكمة أكانت عسكريّة أم دينيّة، أو الهرب في اتجاه الجسد والتقوقع في حلقة رغباته الضيّقة والمحدودة. وكلا الأمرين دليل جبن وخوف وعجز وأنانيّة. لذلك كان الاقتتال الطائفيّ والمذهبيّ تخفيفًا لاحتقان وطنيّ قوميّ اجتماعيّ عجز عن قلب الحكم، والفورة الجنسيّة وملحقاتها (وفي المناسبة أنا لا أصدّق أنّ العرب مكبوتون جنسيًّا) تنفيسًا لطاقة كان يمكنها أن تغيّر وجه التاريخ لو وُجّهت إلى الهدف السليم.
وللحديث تتمّة.