ليس صحيحاً أنّنا نبتكر ونخترع ونجرؤ حيث لا يجرؤ الآخرون. فما يجري في حياتنا الاجتماعيّة، وما يصدر من إبداعاتنا، لا يدلاّن إلاّ على الغرق في التقليد، ولكن ليس بهدف المحافظة على العادات بمفهوم التراث والفولكلور، بل خوفاً من الابتكار والتجديد. ومتى أوحى بعضنا لمن حوله بأنّه أتى بجديد نكتشف بعد وقت أنّ هذا "الجديد" جديد عندنا وقديم عند من سرقت منه الفكرة.
تخيّلوا معي أن يجرؤ عروسان على الكتابة على بطاقة الدعوة إلى عرسهما العبارة الآتية: "ولمن يرغب لائحة الهدايا في مكتبة فلان"! (وليس في المصرف لتسديد نفقات عشاء المدعويّن). أجل، ما الذي يمنع من أن يفعل عروسان مثقّفان ذلك، على الأقلّ في سنة الاحتفال ببيروت عاصمة عالميّة للكتاب، وأن يحلما بمكتبة تستقبلهما في منزلهما الزوجيّ وتسبق الطناجر والصحون والثريّات والسجّاد والبرّاد والغسّالة وغير ذلك من حاجات المنزل، الضروريّة بلا شكّ، ولكن هل تلغي دور الكتاب وقيمته؟ أو تخيّلوا معي عروسين يجرؤان على الإلحاح على المدّعوين كي يصطحبوا أولادهم إلى العرس والسهرة، لأنّهم فرح العيد وبهجة المناسبة، وذلك بدلاً من أن يجد بعضهم الوقاحة الكافية ليكتب على بطاقات الدعوة "نوماً هنيئاً لأولادكم" كي ينبّه حضرة المدعوّين إلى أنّ أولادهم، فلذات أكبادهم، غير مرغوب فيهم، ومع ذلك مطلوب من ملبّي الدعوة أن يقولوا للعروسين: بالرفاه... والبنين.وتخيّلوا أن تجرؤ عائلة أحد المتوفّين على الكتابة على ورقة النعي: من لم يزر فقيدنا في حياته، ولم يساندنا في الشدائد والمرض فلا يكلّفنّ نفسه عناء المشاركة في دفنه. أو أن يقول أحدهم في المأتم: أيّها الأحبّاء، الكنيسة تعلن الحداد على المسيح لثلاثة أيّام لأنّها تؤمن بقيامته من الموت، ونحن، عائلة الفقيد، لن نتصرّف في شكل وثنيّ كأن لا قيامة عندنا، لذلك فلن نرتدي اللباس الأسود ولن نعلن الحداد إلا لثلاثة أيّام.وتخيّلوا أن تجرؤ والدة على تعليق ورقة على باب بيتها الخارجيّ، تعلم فيها الجيران بأنّها تعتذر عن عدم قدرتها على استقبال أحد بعد ظهر كلّ يوم مدرسيّ لأنّ بيتها صغير والأولاد مكبّون على فروضهم وأمثولاتهم وبحوثهم، وهي لا تريد أن يلهيهم شيء عن واجباتهم المدرسيّة.وتخيّلوا أن يجرؤ أحدكم ويسأل مواطناً لبنانياً يناقش في السياسة، وهو يصخب ويثور ويؤكّد وينفي ويهدّد ويتوعّد ويشرئبّ، عن آخر كتاب قرأه في الفكر السياسيّ، أو عن آخر مقالة موضوعيّة، أو عن آخر دراسة علميّة تبيّن بالأرقام والوقائع والتواريخ والمقارنة مواقف هذا الزعيم أو ذاك القائد من هذه المسألة أو من تلك القضيّة.وتخيّلوا أن تحملوا كتابًا لمريض، ونكتة لحزين، وألاّ تستدينوا لتقيموا عرسًا لن يرضي أحدًا، وألاّ يكون عندكم خادمة آسيويّة لا تحتاجون إليها فعلاً.
إنّ أكثر أنواع التصرّفات والمبادرات التي نضعها تحت عنوان الجرأة هي من نوع الوقاحة أو التحدّي أو بهدف "خالف تُعرف"، أو "الإبحار عكس التيّار"، أو نشر الفضائح، أو إثارة المشاعر والغرائز على مختلف المقاييس. أمّا الجرأة التي تعلّم وتربّي وتضع نصب عينيها أهدافًا واضحة بنّاءة فلا نزال بعيدين منها، ولذلك نستسهل تقليد البرامج والشخصيّات والأزياء والديكور والهندسة وتسريحة الشَعر وكتابة الشِعر، وصولاً إلى "تقليد" الأوسمة لمستحقّيها بعد موتهم لأنّنا نريد أن نقلّد الدول الراقية في تكريم المبدعين.
ولذلك فأكثر مدّعي الجرأة يفضّلون أن يرفعوا أرقام حساباتهم المصرفيّة، على أن يرفعوا أصواتهم في وجه الظلم، وأن يرفعوا سقوف قصورهم، على أن يرفعوا سقف مطالب الناس المحقّة، وأن يرفعوا من قيمة أنفسهم في نظر الناس على أن يرفعوا رؤوسهم أمام من يتذلّلون له.
هناك تعليقان (2):
من المستقبح في مسألة التقليد أن العقل يهمّش فلا توضع العادة او العرف في مفرزة العقل السليم.
لست ضد (كل) التقاليد ولكني ايضاً لست (مع كل) الأعراف..
قال ابن رشد: الحسن ما حسنه العقل والقبيح ما قبحه العقل.. واستنكر غاليليو بقوله: لست اصدق ان الله الذي اعطان الفكر والعقل والمنطق يريدنا ألا نستعملها!!
ولذلك اصبح الاعلام بتقليده للبرامج الغربية مسخرة..والانتاج الفكري معطل..
شكرا لك سيدتي.
شكرًا على هذه المداخلة الغنيّة، يسعدني مرورك على مدوّنتي وعلى آراء قيّمة تصدر عن فكر منفتح مستنير
دمت بخير
إرسال تعليق