إذا كانت فيّ المحبّة ولم تكن فيّ الشجاعة فإنّما أنا شعار فارغ مرفوع فوق طريق، لا أحد ينظر إليه أو يتمعّن في معانيه. فما نفع المحبّة اذا كانت مجرّد كلمات تلقى في الخطب وتتبخّر في الهواء؟ وما نفع المحبّة إن لم تتحوّل أفعالاً تغيّر وجه العالم؟ وهل تكفي المحبّة القابعة في زاوية القلب كي يشبع الجائع، ويشفى المريض، ويؤاسى الحزين، وتمسح الدمعة؟ لو كانت المحبّة وحدها تكفي من دون شجاعة الفعل لبقي المسيح في عليائه، ولما كان عليه أن يلبس أجسادنا ليلبسنا جسده!
وإذا كانت فيّ العدالة ولم تكن فيّ الشجاعة فإنّما أنا ميزان يميل مع قوّة المصالح ولمصالح الأقوياء. فكيف أكون إنسانًا عادلاً إن لم أجرؤ على قول الحقيقة، وممارسة المحبّة، ومقارعة المخطئ، ومواجهة المتسلّط، والحكم على المجرم ولو كان من ذوي السلطان والمراتب، وإنصاف المظلوم؟ وما نفع العدالة إن كان واضع أحكامها يؤمن بعصمته، وحامي قوانينها جبان رعديد، ومنفّذ أوامرها يشرى ويباع لأنّه يخشى الحاجة والعوز؟ وهل ثمّة عدالة على الأرض اليوم تنظر لأنّها لا تخشى رؤية الحقائق، وتسمع لأنّها لا تخاف من الإصغاء إلى صوت الحقيقة؟
وإذا كانت فيّ الحكمة ولم تكن فيّ الشجاعة فإنّما أنا أبعد الناس عن حكمة السماء المحلّقة فوق الأمكنة والأزمنة وأقرب المخلوقات إلى أمان الأرض حيث يحلو لي أن أبقى في عتمة باطنها على أن أشقّ تربتها لتعانق أغصاني شمسها وليلها وهواءها وعناصرها. فما نفع الحكمة إن بقيت خطبًا رنّانة فوق المنابر ولم تتجسّد أفعالاً تنقذ العالم من جنونه وأنانيته وغضبه وألمه وجشعه؟ وما نفع الحكمة إن بقيت أسيرة كتب الحكماء الذين لم يجدوا الجرأة كي يبشّروا بها حيث المرضى لا الأصحّاء، وحيث الجاهلون لا العقلاء، وحيث المناقشات والاعتراضات والأسئلة لا حيث الذين يهزّون الرؤوس موافقين مستسلمين خاضعين؟
وإذا كان فيّ السلام ولم تكن فيّ الشجاعة فإنّما أنا إنسان غارق في الاستسلام، أهادن لأنّني لا أجرؤ على المواجهة، وأوافق لأنّني لا أتخيّل نفسي في موقع المعارضة، وأخضع لأنّني لم أتعلّم المساءلة والمحاججة والمقارعة. فما نفع السلم إن لم تحمه شجاعة المحبّة التي هي ابنة القلب، وشجاعة المعرفة التي هي انتاج العقل، وشجاعة الحلم الذي هو وليد الخيال؟ وبم يفيد سلم المحايدين الذين لا يجرؤون على حمل سوط المقاومة حين يُهدَّد الهيكل، ولا صليب الألم المخلّص لأنّ تصلّب قلوبهم أكّد لهم أن لا قيامة بعد الموت؟
وإذا كنت أملك الحقيقة ولا أملك شجاعة إعلانها والدفاع عنها أو مشاركة الآخرين بها، فإنّما أنا كائن جبان وأنانيّ: جبان يخشى أن تحرّره الحقيقة من أوهام اعتاد أمانها الغبيّ، وأنانيّ يخشى أن يعرف الآخرون ما يعرف ويتحرّروا من سطوة معرفته، والمعرفة قوّة يجب أن توضع في خدمة الجماعة لا أن تهيمن عليها. فما نفع الحقيقة إن بقيت كنزًا مطمورًا وسرًا دفينًا وعلمًا لا علم لأحد به؟ وهل ثمّة من يعلن الحقيقة وعوضًا عن أن يمشي في حال سبيله يبقى ويثبت حتى المنتهى لأنّ من يثبت إلى المنتهى يخلص؟إنّ الحقّ والخير والجمال من دون شجاعة خبثٌ وشرّ وقبح، فالشجاعة هي الغربال الذي ينقّي النساء والرجال من البخل فلا يخشون العطاء، ومن الخوف فلا يهربون من المواجهة، ومن الغباء فلا يرمون أنفسهم في تهلكة مجّانيّة.
هناك 6 تعليقات:
ليس في جنة ماري غير فرح الحرف وبهجة
المعنى ، ميّ العين ونور القلب، والمحبة خبز المعرفة
There towns are towns of doom and gloom
And hers is Eden of full bloom
عافيها يا الله
نتمسّك بمعرفةالحقّ والخير والجمال كلّما شاهدنا كيف يسبّب البشر أنفسهم في مآسي البشريّة
كلماتك مؤثرة جدا.. فلسفة موجعة نرى فيها أنفسنا .. تحياتى لقلمك المبدع
لك جزيل الشكر أخ صبري. أنت تعرف معنى الألم، وتعلم كم تحتاج البشريّة إلى من يخفّف منه. ألهمنا الله أن نحسن ذلك. لك تحيّاتي
إذا كانت في الأرض الشجاعة لكانت المحبة والعدالة والحكمة والسلام والحقيقة و... لعم الفرح الذي نفتقده كثيراً.
صحيح! كم نفتقد الفرح. شكرًا على رأيك وتعليقك
إرسال تعليق