حين أسأل صديقاً التقيته بعد غياب عن صحّته، أتوقّع أن أسمع منه: معي شويّة كوليسترول، معي شويّة سكّري، معي شويّة ارتفاع بالضغط. أمّا أن تقول لي فتاة جميلة في عمر المراهقة حين سألتها عن أحوالها وكنت أقصد طبعًا أحوال الدراسة والحبّ والمغامرات: "معي شويّة سرطان"، فذلك ما لا يمكن أحد توقّع سماعه، خصوصًا أنّ أحدًا منّا لا يخطر في باله أن يسأل من هم في عمر الصبا والجمال عن صحّتهم. فالمفروض أن يكونوا في صحّة ممتازة، لولا... هالشويّة سرطان.
لعلّ الفتاة أرادت بجوابها المرفق بابتسامةِ من تقبّل الأمر منذ زمن أن تخفّف عنّي هول ما سأسمعه، أو أن توفّر عليّ المزيد من الأسئلة عن الدراسة والصداقات، فاختصرت عليّ الطريق وصفعتني بعبارة لم تخفّف السخرية فيها من عنفها وقسوتها. وكيف لا يكون الأمر كذلك، وكلمتان اثنتان استطاعتا أن تضعاني أمام احتمالات الهشاشة والزوال؟
"شويّة سرطان"، ألا تصلح هاتان الكلمتان عنوانًا لرواية تصف معركة فتاة شابّة مع مرض خبيث اغتصب جسمها، ولم يهرب كما يفعل المغتصبون عادة بل احتلّ حياتها وحياة من يحيط بها ساخراً، هازئاً، لئيماً، بشعاً، عنيفاً، شامتاً، عنيداً؟ ولماذا لم توجد بعد في آدابنا وفنوننا روايات وقصائد ولوحات وأغنيات وفيديو كليب وأفلام ومنحوتات عن المرض، أيّ مرض، وعن المرضى، مختلف أنواع المرضى، وكلّنا يعرف حكايات المبدعين مع أمراضهم أو أمراض أقربائهم وأصدقائهم؟ ولماذا تبقى الإشارة إلى الألم مجرّد عناوين كبيرة جوفاء وشعارات فارغة ورموز شعريّة وصور خياليّة، كأنّ الموضوع كلّه مجرّد حالات هلاميّة أو احتمالات معاناة، لا أحد يريد الاعتراف بوجودها حقيقة؟ فالقضايا الكبيرة ليست تلك الوطنيّة والقوميّة والأمميّة فحسب، فثمّة ملايين المرضى الذين يحملون قضيّة الحياة في كلّ ثانية من أعمارهم، ويحاربون من أجلها بكلّ خلية من خلاياهم، ومع ذلك فلا أحد يأتي على ذكر معاركهم وبطولاتهم إلاّ في أيّام معدودة في السنة ووفق روزنامة عالميّة: يوم السيدا، يوم السرطان، يوم السكّري، يوم الإلزهايمر، يوم التلاسيميا، يوم الإنفلونزا... ومن يوم ليوم يموت في أسرّة المرض ملايين الناس، في وقت ينشغل من حولهم بالقضايا "الكبيرة": محاربة أميركا (العدو الأكبر) والقضاء على إسرائيل (السرطان الذي ينخر جسم الأمّة) والعمل لتحقيق الثراء والوصول إلى أعلى المراتب. أمّا مرضى السرطان الذين ترتفع نسبتهم في شكل مخيف بين الأطفال واليافعين، والمدمنون، وضحايا الانهيارات العصبيّة، والمصابون بأمراض القلب والكلي والدم، وشهداء المستشفيات (هؤلاء وحدهم يستحقّون يوم حداد وطنياً) ضحايا الإهمال والجهل والفساد، فما من نظرة إلى عوالمهم الممزّقة بين الألم والأمل، والكفر والإيمان، والاستسلام والمقاومة، وما من خطّة دعم متكاملة علميّة وإعلاميّة وطنيّة تساعدهم وتساعد عائلاتهم، معنوياً ومادياً، على تحمّل المرض في انتظار الانتصار عليه.
ولذلك فـ"هالشويّة سرطان" ستصير حتمًا خلايا إرهابيّة قاتلة مزروعة في جسم الفرد فتقضي عليه، وفي تماسك العائلة إذ تعرّضها لأقسى امتحان، وفي الانتماء إلى الوطن الذي يشعر أبناؤه بالمذلّة عند استعطاء العلاج والعناية.
أكتب هذا الكلام وفي بالي تلك الأمّ التي رمت نفسها من على سطح البناء حيث تقيم لأنّها لم تعد تستطيع العناية بثلاثة أطفال مصابين بالسرطان، وذلك الأب الذي أخفى عن عائلته إصابته بالمرض كي لا يضطر إلى تحمّل كلفة العلاج وفضّل الموت في صمت وبطء، وذلك الشابّ المنتظر كلية تزرع في جسمه وتنقذ حياته، وتلك السيّدة المصابة بالإلزهايمر ولا يعرف أولادها كيف يتعاملون مع حالتها. أمّا الصبيّة "اللي معها شويّة سرطان" فلا تزال تنتظر أن تصير موضوعاً لأغنية أمل أو لرواية عن البطولة، قبل أن يحوّلها التجاهل عنواناً لقصيدة رثاء.
هناك تعليقان (2):
نحن مش معودين على معالجة المشكله قبل ما تصير. معودين نبكي ع يلي صار
صحيح. لأنّو ما بدنا نعترف إنّو في مشكلة، ولأنّو إذا في مشكلة مننطر حدا تاني يحلّها: من السما أو من الأرض
إرسال تعليق