حريّة المرأة السعوديّة ليست هدفًا بل وسيلةٌ لتحرير المجتمع كلّه من الجهل والتعصّب والظلم. أعرف أنّ سعوديّات كثيرات يعرفن ذلك، الخوف (من) و(على) الشريحة الكبرى من النساء اللواتي يتناسين (أو يجهلن) أنّ الحريّة مسؤوليّة. والمفارقة أنّ البلد الذي لم يسمح للمرأة بعد بقيادة السيّارة أعطاها دورًا تمثيليًّا في الحياة السياسيّة. وتفسير ذلك بسيط: فقيادة السيّارة شأن يطاول الحياة العائليّة والاجتماعيّة ويمكن أن يثير تغيّرات في العلاقات الأسريّة لا تريد الحكومة أن تتلهّى بتفاعلاتها ونتائجها. في حين يأتي القرار المهمّ (من فوق) بأن يقود الرجل سيّارة المرأة ليوصلها إلى حيث تُسمِع صوتها وتعطي رأيها وتحدث الفرق. ومن المنطقيّ أن يكون صوتها هناك أهمّ من بوق السيّارة في الشارع، مع الإشارة إلى أنّ المرأة اللبنانيّة قادت السيّارة قبل سواها من شقيقاتها العربيّات ومع ذلك لم تصل إلى المجلس النيابيّ أو الوزارة إلّا بالوراثة عن أبيها أو زوجها أو لكونها محسوبة على فلان أو فلان من الزعماء، تدلي بصوته لا بصوتها.
التغيّرات لا بدّ آتية، في السعوديّة وسواها. حركة المجتمع ليست هبة من أحد، إنّها ميزة طبيعيّة فيه. والعبرة في أن تتّعظ المجتمعات من تجارب سواها وتتعلّم منها.
حركة تحقير المرأة
( نشر هذا النصّ إثر مقتل المغنيّة سوزان تميم)
الصورة التي نشرتها المجلّة الإلكترونيّة "إيلاف" يوم الثلاثاء 20 أكتوبر 2008 للمغنيّة سوزان تميم وهي مذبوحة سُحبت عن الموقع في اليوم التالي مع الاعتذار من القرّاء. ليت الأمر بالنسبة إلى ذاكرتنا في مثل سهولة كبسة الزرّ التي محت الصورة عن الشاشة. ولكن يبدو أنّ هذا هو الثمن الذي علينا أن ندفعه إن أردنا أن نرى أكثر ونسمع أكثر لنعرف أكثر، غير أنّ الجميلة التي اعتدى عليها الذئب في غابة المال والأعمال، والأميرة النائمة في انتظار قبلة الأمير، ستبقى لغزًا لا يريد أحد أن يحلّ عقدته.
من الذي أوصل سوزان تميم إلى هذه "الصورة"؟ حريّة الصحافة أم حريّة المرأة أم "حريّة" ممارسة السلطة؟ وهل نضع الحقّ في ما أصاب الصبيّة على التحرّر ونقول أنّ ذلك هو ما أوصلها إلى المصير الذي رأيناها فيه؟ وهل نستغلّ هذه الجريمة البشعة لنطلق النظريّات حول حريّة المرأة وحدود هذه الحريّة وشروطها وقوانينها؟ لا شكّ في أنّ كثيرين فعلوا ذلك وسيفعلون وسيلقون اللوم على عمل المرأة وخصوصًا في المجال الفنيّ، وينسى هؤلاء ما كنّا نراه صغارًا في أفلام فاتن حمامة (قبل أن نقرأ الروايات التي صارت أفلامًا) حين كانت الاعتداءات تقع في الحقل وفي القرية ومع الفلاّحات البسيطات وفي زمان الأبيض والأسود قبل أن تتلوّن مخيّلتنا بألوان القصص وحكايات النجوم والمشاهير.
ولكن ما يدعو إلى التفكير، بعيدًا عن هذه القضيّة بالتحديد، هو وهم الحريّة لا الحريّة في حدّ ذاتها. فأن تتحرّر المرأة العربيّة من سلطة والدها لتقع تحت سلطة صديقها الثريّ لا يعني أنّها حقّقت ذاتها وأحلامها. فما دامت المرأة تحتاج إلى الرجل، أيّ رجل، كي يغدق عليها الأموال، ويحمل إليها الهدايا، أو في كلّ بساطة كي يؤمّن لها قوت يومها، فذلك يعني أنّها ليست حرّة بعد. فخلع الملابس أسهل أنواع التحرّر، ألا تخلع الأشجار أوراقها مع هبوب الريح؟ وممارسة الجنس أسهل أنواع التحرّر ألا تتكاثر الحيوانات وتتناسل لأنّها تمارس الجنس أيضًا؟ والصراخ في الشوارع والتعبير عن الرأي أسهل أنواع التحرّر، ألا تصرخ العواصف في الليل؟ ألا يصدر البحر الهائج أصواتًا تعبّر عن ثورته؟ والبركان؟ ألا يقذف الحمم تعبيرًا عن غليانه؟
الحريّة شيء مختلف تمامًا، ولا تكون إلاّ في الترفّع عن الأمور الماديّة إلى درجة الزهد بمتاع الدنيا، أو الاكتفاء الماديّ حتّى لا تضطر المرأة إلى اللجوء إلى أحد، أيًّا يكن هذا "الأحد". فالانتقال من ذراعي رجل إلى ذراعي آخر لا يعني أنّ المرأة حرّة تستطيع أن تفعل ما تشاء، والمتاجرة بالمخدّرات لا تعني أنّ المرأة حرّة وتستطيع العمل في أيّ مجال، والتبادل الذي تدّعي بعض النساء أنّه من طبيعة الحياة لا يعني أنّ المرأة حرّة تستطيع أن تقدّم جسدها في مقابل المجوهرات، أو أفكارها في مقابل الطعام، أو رفقتها في مقابل الملابس وعمليّات التجميل وما تؤمنّه من علاقات عامّة وشهرة.
وما لم تفهم المرأة أنّ اكتفاءها الماديّ من دون أن تكون "مديونة" لأحد هو السبيل الوحيد لتحقيق ذاتها، فستبقى عالة على المجتمع وستبقى أسيرة ولو كانت قيودها من ذهب. ولن يغيب عن البال أنّ العبوديّة عبوديّة أكانت لربّ العمل أم لربّ البيت، والأسر أسر أكان ذلك في المنزل الوالديّ أو الزوجيّ أو في الشركة أو المعمل أو المدرسة أو الجامعة، والارتهان ارتهان أكان ذلك من أجل زعيم أم من أجل ثوب أم من أجل سرير.
تتساءل النساء في عالمنا العربيّ عن سبب حرمانهنّ من حريّتهنّ، ويلقين اللوم على الرجل. معهنّ حقّ، ولكنّ الرجل الذي تهرب منه المرأة كوالد هو الصديق الذي تلجأ إليه الجارة، والزوج الذي تهرب منه المرأة بسبب عنفه هو الرجل نفسه الذي ترتمي عشيقته عند قدميه، والأخ الذي تهرب منه المرأة لقسوته هو نفسه الشاب الذي تتحرّش به صديقتها. ولأنّ الرجل يعرف ذلك، ولأنّه يعرف أنّ المرأة العربيّة لم تتصالح بعد مع نفسها وعقلها وجسدها، ولأنّه يعرف أنّها أسيرة رغباتها قبل أن تكون أسيرة رغباته وأنّها تحتاج إليه طوال الوقت في حين يحتاج هو إليها لبعض الوقت، لأنّه يعرف كلّ ذلك لم تستطع المرأة أن تحقّق ذاتها بل لا تزال تمعن في تحقير هذه الذات وإذلالها.
هناك 3 تعليقات:
جميل ما سطرتيه..والأجمل قولك: "العبرة في أن تتّعظ المجتمعات من تجارب سواها وتتعلّم منها".اتمنى من قلبي أن تستفيد المرأة السعودية من هذه المساحة الكبيرة جداً قياساً لما كانت تُطالب به..فموقعها في مجلس الشورى والمجالس البلدية سيحقق المطالب الأخرى.
دمتي بخير
مقاربة بديعة يا مريم. عافاك
We cannot plan a future map
As we are in The Mousetrap
إلى وحي من الداخل، معك حقّ في أنّ وصول المرأة إلى مجلس الشورى والمجالس البلديّة لا بدّ من أن يسهّل عليها تحقيق ما تستحقّه/ شكرًا على المرور والتعليق
الصديق جمال، مرورك ورأيك منتظران دائمًا
إرسال تعليق