الجمعة، 5 أغسطس 2011

"العصاميّون" من عقد النقص إلى جنون العظمة

الممثّل الفرنسيّ لوي دو فونيس في فيلم بعنوان "جنون العظمة"

في كتب اللغة، "العصاميّ" هو من ساد بشرف نفسه لا بشرف آبائه، وكلمة "عصام" ترد في مَثـَل يُضرب في الاستخبار فيقال: " ما وراءك يا عصام؟"، والعِصمة هي مَلَكة إلهيّة تمنع من اجتناب المعاصي أو الخطأ مع القدرة عليه. والمعصوم هو غير المعرّض للخطأ والضلال، والمعتصِم هو من لجأ إلى مكان أو أحد ولازمه حتى يستجاب طلبه.
ولكنّ بعض "العصاميّين" أصيب لجهله اللغة بنوع خطير من جنون العظمة، فاختلطت عليه الكلمات والصفات:
فثمّ عصاميّ رغب في تحقيق نفسه فأنكر آباءه، وتنكّر لنسبه، وأمضى سحابة عمره وهو يعالج عقد النقص التي حملها من طفولته، فحارب فقر والديه بالسرقة، وعالج دونيّته برشق الآخرين بحجارة حقده، وافتخر بأنّه صنع نفسه بنفسه ونسي أنّه أجبر على فعل ذلك لأنّه لم يجد من يصنعه بمحبّة وإتقان وخبرة.
وهناك عصاميّ يعمل في الاستخبار(ات)، يقبض ممّن يدفع أكثر ويبيع كلّ شيء بدءًا من أملاك السماء وصولاً إلى ممتلكات الأرض، يحمل الأخبار لمن يزوّده ويحجبها عمّن لم يفعل، ويسخر من طرفة بن العبد الذي قال على فتوّة عمره: "ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد"، وهل يعقل أن يدقّ أحدهم الشيش بخشيش كما نقول في أمثالنا الشعبيّة، ويأتي بخبر لم يقبض ثمنه؟
وثمّ عصاميّ اعتقد أنّ صفته المنتحلة منحته العصمة الإلهيّة، فهو معصوم عن الخطأ والضلال، فما يقوله حقّ، وما يفعله صواب. وهذا يعني طبعًا تكفير كلّ من يعارضه أو يناقشه أو يشكّك في دعوته السماويّة أو توجّهاته السياسيّة أو تقلّبات أهوائه. ونسي أنّ العصمة ليست بيده، ومهما فعل فلا يستطيع تطليق ماضيه وستبقى الحريّة التي يهبها له الآخرون عارًا عليه.
وثمّ عصاميّ ظنّ نفسه المعتصم بالله فهبّ لنجدة النساء اللواتي صرخن: وامعتصماه، وحين قيل له أنّ فتوحاته لا تشبه بشيء فتح عمّوريّة، ولن يجد في طبيعة الحال شاعرًا كأبي تمّام يؤرّخ انتصاراته، أعلن نفسه شاعرًا وراح يمدح أعماله ويفتخر بإنجازاته ويهجو طواحين الهواء التي خيّل إليه أنّها تحاربه.
*****
مشكلة هؤلاء "العصاميّين" أنّهم لا يحسنون بناء أنفسهم إلاّ على أنقاض ما بناه الآخرون فيرفعون عليها هياكل لتمجيد ذواتهم، ومن حجارتها المهشّمة يرفعون الأسوار ليختبئوا خلفها ممّن يعرف ماضيهم أو كان شاهدًا على بداياتهم أو مدّ لهم يد المساعدة في لحظة مصيريّة من مسيرتهم.
وهم إلى ذلك عصيّون على العلاج، يعصون أوامر أسيادهم حين تتاح لهم الفرصة ولا يدركون ثقل المعاصي التي يرتكبونها في طريقهم إلى المجد. وجنون العظمة الذي يعمي بصائرهم يصوّر لهم أنّهم رجال أشدّاء، وقدّيسون أتقياء، ومفكّرون حكماء، فيسترسلون في إقناع أنفسهم بأنّ خلاص البشريّة لن يأتي إلاّ على أيديهم، وأنّ وحدة الوطن لن تتحقـّق إلاّ بجهودهم، وأنّ إصلاح المجتمع لن يتمّ إلاّ من خلال أفكارهم. وهم إلى ذلك لا يكتفون بما يعتبرونه إنجازات محليّة ضيّقة فيعمدون إلى مدّ بساط طموحهم إلى بلاد الآخرين، فيعملون على تحرير بلد من محتلّيه، ويخطّطون لقلب نظام في بلد آخر.
ولكن متابعة بسيطة لمسيرة هذا النوع ممن يحلو لهم حمل لقب "العصاميّين" تبيّن في وضوح التناقضات في مواقفهم، والتقلّبات في مبادئهم؛ لذلك تراهم ينساقون خلف التيّارات ولا يعاندونها، ويقحمون أنفسهم في الصفوف الأماميّة لينسوا أنّهم كانوا إلى حين غير منظورين، ويسعون إلى النجاح لا لخدمة المجتمع ولا لتحقيق طموح بل طمعًا في أن يظهروا لمن نبذهم في بداية مسيرتهم أنّهم ناجحون. ولكنّهم لا يعلمون.

هناك تعليقان (2):

جمال السيد يقول...

هذا درس فيه من علم الإجتماع والطرافة وجمال اللغة والعرض وترتيب الفكرة ما يستوجب وضعه في المنهاج العربي ليتعلم النشء ويتعظ الآباء، والأجمل أن جاء في شهر الصوم حيث في النفس صفاء وشيء من "عصامية"

ماري القصيفي يقول...

شهر مبارك، مع مودّتي

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.