راس بعلبك - 1896
يسير رتل السيّارات بالركّاب الرجال على مهل خلف عربة الموتى السوداء الكبيرة. ومع أنّ القرية بعيدة والمسافة طويلة، لم تسمح حرمة الموت ومشاعر ذوي الفقيد لسائقي السيّارات باستعجال الوصول إلى حيث يوارون الميت الثرى، ثم يعودون مسرعين متفرّقين إلى منازلهم في المدينة وضواحيها.
وبما أن هؤلاء لن يقصدوا القرية إلاّ في مناسبة حزينة مشابهة غير عالمين من منهم سيكون المرحوم فيها، راحوا يتأمّلون الطريق والمشاهد الطبيعيّة ويتبادلون الأحاديث والمعلومات عن بيع الأراضي وحركة البناء وأوضاع البلد والناس. ولكنّ أحدًا منهم لم يشر إلى ذكرياته في هذه الأماكن التي هجروها أو هجّروا منها منذ زمن ولا يفكّرون في العودة إليها والاستقرار فيها...أحياء على الأقلّ.
وهكذا صارت قرانا المهجورة مجموعة من المدافن المتجاورة. أمّا الأرض فمهملة والخدمات الصحيّة والتعليميّة غائبة والبنى التحتيّة في حالة يرثى لها، لأنّ الموتى لا يحتاجون إلى شيء من ذلك. ولذلك عمل أبناء تلك القرى والبلدات على بناء مدافن لائقة وجميلة تستقبلهم في راحتهم الأبديّة. أمّا البيوت فلا داعي لبنائها أو ترميمها أو تحسين وضعها ما داموا لن يقيموا فيها.
الناس الذين عاشوا فعلاً في القرية وبنوا ما فيها ماتوا أو شاخوا، وأولادهم يفضّلون الإقامة في المدن بعدما أجبرتهم ظروف الحرب على تذوّق حلاوة الحياة فيها. أما الأحفاد فيصرّون على الاستقرار في بلاد الاغتراب لأنّ البلد لم يعد على مستوى أحلامهم وطموحهم ولا يعدهم بمستقبل آمن وزاهر.
في المقابل لا أحد يهمّه أن يجد حلاً. فالدولة غائبة كليًّا عن هذا الشأن، ولا يعنيها تحسين ظروف الحياة في بلدات وقرى غير سياحيّة ولا تجذب المصطافين أو رؤوس الأموال، وحياة الليل فيها هادئة ساكنة لا تغري ولا تؤمّن الربح السريع ولا تليق بالمهرجانات، بل تصلح للتأمّل وكتابة الشعر وهما أمران لا يثمران ولا يشبعان عند الجوع. والناس ليسوا مضطرّين إلى استثمار أموالهم القليلة في بناء قراهم وإعمارها ما دام لا شيء في هذا البلد يضمن بقاءها وصمودها.
غير أن للموتى شأنًا آخر، فإن حوربوا لن يموتوا مرّة ثانية، وإن هاجمهم العدو لن يخافوا على أرواحهم، وإن اعتدي عليهم لن يتألّموا، وإن هُجّروا لن يجوعوا أو يعطشوا، وإن أهملتهم الدولة لن يشعروا بالإذلال والمهانة، وإن عضّهم البرد بسبب غلاء صفيحة المازوت لن يرفعوا أصواتهم احتجاجًا واستنكارًا . فلماذا لا يعود بهم أقرباؤهم إلى القرى ما دامت المدافن في المدن باهظة التكاليف، وما داموا لن يزوروهم كلّ يوم بل يكتفون بذلك مرّة في السنة؟
الموتى عندنا ذوو طباع سهلة، مسالمون هانئون، لا يطالبون بشيء ولا يرفضون شيئًا. ينامون حيث نضعهم، يحرسون أطراف البلدات والقرى ولا يطلبون أجرًا، يقيمون في السكون والهدوء ولا يصدرون صوتًا يعكّر صفو الطبيعة الجميلة. يسكنون في مدافن واسعة ذات قرميد أحمر وحيطان من أحجار منحوتة تحيط بها الأشجار والأزهار والعصافير ، فلماذا نضعهم في أماكن ضيّقة ملوّثة صاخبة مزدحمة؟ وكيف يقيمون عندئذ في "الراحة" الأبديّة؟
قد لا يكون لائقًا أن نسخر ونحن نتحدّث عن موضوع يثير الحزن كمرأى قرانا وبلداتنا تئن من الفراغ وتصفر فيها رياح الوحدة والملل ولا تقصدها إلا مواكب الموت وسماسرة البيع، غير أن شرّ البليّة يضحك ويبكي في آن واحد: نزوح وهجرة، مدينة مكتظّة وقرى مهملة، أراض برسم البيع وفيلاّت خالية تنتظر مصطافين يقيمون فيها لأسابيع، أحياء يقيمون في غرف صغيرة كالمدافن لا شرفات لها، وموتى يرتاحون في أراض مطلّة مشمسة لا نهاية لها.
**************
من قصيدة جميلة بعنوان "بحيرة المصل" (من ديوان يحمل العنوان نفسه) للشاعر اللبنانيّ يحيى جابر أستعير هذين المقطعين المعبّرين عن مصير قرانا التي صارت، أكانت في الجنوب أو الشمال أو البقاع أو الجبال، مدافن لأحبائنا نقصدها من المدينة ونزورها مع باقات زهر وشموع ودموع:
الولد على خشبة المسرح*
يحفر قبرًا كلّ ليلة
وأمّه دمعة متجمّدة
تريد حفّارًا لعظامها البيضاء
الحفّار في الضيعة ينتظر جثّتها
الجثّة في سيّارة الإسعاف
سيّارة الإسعاف على الجسر
جسر القاسميّة مقفل بالجنود*
لو ينسف الجسر
وتعبر جنازتها،
لكنّه يحفر..
وكانت تمطر..
عشرة مخالب تنبش الكفن
قرأ الضابط شهادة الوفاة
سرق الجنديّ وردة من الإكليل
فتحوا البوّابة
الجثّة تمرّ فوق الجسر والماء
ارتعش الليطاني
ابتسمت أمّي في تابوتها
تشقّقت الشمس كالخشب العتيق
ضحكنا
عانقنا بعضنا
صباح الخير يا أجمل قبر
صباح الخير أيّتها القرى.
* الشاعر كان يلعب دور "حفّار القبور" في إحدى المسرحيّات حين توفت أمّه.
* الشاعر من الجنوب اللبنانيّ والجنود إسرائيليّون.
وبما أن هؤلاء لن يقصدوا القرية إلاّ في مناسبة حزينة مشابهة غير عالمين من منهم سيكون المرحوم فيها، راحوا يتأمّلون الطريق والمشاهد الطبيعيّة ويتبادلون الأحاديث والمعلومات عن بيع الأراضي وحركة البناء وأوضاع البلد والناس. ولكنّ أحدًا منهم لم يشر إلى ذكرياته في هذه الأماكن التي هجروها أو هجّروا منها منذ زمن ولا يفكّرون في العودة إليها والاستقرار فيها...أحياء على الأقلّ.
وهكذا صارت قرانا المهجورة مجموعة من المدافن المتجاورة. أمّا الأرض فمهملة والخدمات الصحيّة والتعليميّة غائبة والبنى التحتيّة في حالة يرثى لها، لأنّ الموتى لا يحتاجون إلى شيء من ذلك. ولذلك عمل أبناء تلك القرى والبلدات على بناء مدافن لائقة وجميلة تستقبلهم في راحتهم الأبديّة. أمّا البيوت فلا داعي لبنائها أو ترميمها أو تحسين وضعها ما داموا لن يقيموا فيها.
الناس الذين عاشوا فعلاً في القرية وبنوا ما فيها ماتوا أو شاخوا، وأولادهم يفضّلون الإقامة في المدن بعدما أجبرتهم ظروف الحرب على تذوّق حلاوة الحياة فيها. أما الأحفاد فيصرّون على الاستقرار في بلاد الاغتراب لأنّ البلد لم يعد على مستوى أحلامهم وطموحهم ولا يعدهم بمستقبل آمن وزاهر.
في المقابل لا أحد يهمّه أن يجد حلاً. فالدولة غائبة كليًّا عن هذا الشأن، ولا يعنيها تحسين ظروف الحياة في بلدات وقرى غير سياحيّة ولا تجذب المصطافين أو رؤوس الأموال، وحياة الليل فيها هادئة ساكنة لا تغري ولا تؤمّن الربح السريع ولا تليق بالمهرجانات، بل تصلح للتأمّل وكتابة الشعر وهما أمران لا يثمران ولا يشبعان عند الجوع. والناس ليسوا مضطرّين إلى استثمار أموالهم القليلة في بناء قراهم وإعمارها ما دام لا شيء في هذا البلد يضمن بقاءها وصمودها.
غير أن للموتى شأنًا آخر، فإن حوربوا لن يموتوا مرّة ثانية، وإن هاجمهم العدو لن يخافوا على أرواحهم، وإن اعتدي عليهم لن يتألّموا، وإن هُجّروا لن يجوعوا أو يعطشوا، وإن أهملتهم الدولة لن يشعروا بالإذلال والمهانة، وإن عضّهم البرد بسبب غلاء صفيحة المازوت لن يرفعوا أصواتهم احتجاجًا واستنكارًا . فلماذا لا يعود بهم أقرباؤهم إلى القرى ما دامت المدافن في المدن باهظة التكاليف، وما داموا لن يزوروهم كلّ يوم بل يكتفون بذلك مرّة في السنة؟
الموتى عندنا ذوو طباع سهلة، مسالمون هانئون، لا يطالبون بشيء ولا يرفضون شيئًا. ينامون حيث نضعهم، يحرسون أطراف البلدات والقرى ولا يطلبون أجرًا، يقيمون في السكون والهدوء ولا يصدرون صوتًا يعكّر صفو الطبيعة الجميلة. يسكنون في مدافن واسعة ذات قرميد أحمر وحيطان من أحجار منحوتة تحيط بها الأشجار والأزهار والعصافير ، فلماذا نضعهم في أماكن ضيّقة ملوّثة صاخبة مزدحمة؟ وكيف يقيمون عندئذ في "الراحة" الأبديّة؟
قد لا يكون لائقًا أن نسخر ونحن نتحدّث عن موضوع يثير الحزن كمرأى قرانا وبلداتنا تئن من الفراغ وتصفر فيها رياح الوحدة والملل ولا تقصدها إلا مواكب الموت وسماسرة البيع، غير أن شرّ البليّة يضحك ويبكي في آن واحد: نزوح وهجرة، مدينة مكتظّة وقرى مهملة، أراض برسم البيع وفيلاّت خالية تنتظر مصطافين يقيمون فيها لأسابيع، أحياء يقيمون في غرف صغيرة كالمدافن لا شرفات لها، وموتى يرتاحون في أراض مطلّة مشمسة لا نهاية لها.
**************
من قصيدة جميلة بعنوان "بحيرة المصل" (من ديوان يحمل العنوان نفسه) للشاعر اللبنانيّ يحيى جابر أستعير هذين المقطعين المعبّرين عن مصير قرانا التي صارت، أكانت في الجنوب أو الشمال أو البقاع أو الجبال، مدافن لأحبائنا نقصدها من المدينة ونزورها مع باقات زهر وشموع ودموع:
الولد على خشبة المسرح*
يحفر قبرًا كلّ ليلة
وأمّه دمعة متجمّدة
تريد حفّارًا لعظامها البيضاء
الحفّار في الضيعة ينتظر جثّتها
الجثّة في سيّارة الإسعاف
سيّارة الإسعاف على الجسر
جسر القاسميّة مقفل بالجنود*
لو ينسف الجسر
وتعبر جنازتها،
لكنّه يحفر..
وكانت تمطر..
عشرة مخالب تنبش الكفن
قرأ الضابط شهادة الوفاة
سرق الجنديّ وردة من الإكليل
فتحوا البوّابة
الجثّة تمرّ فوق الجسر والماء
ارتعش الليطاني
ابتسمت أمّي في تابوتها
تشقّقت الشمس كالخشب العتيق
ضحكنا
عانقنا بعضنا
صباح الخير يا أجمل قبر
صباح الخير أيّتها القرى.
* الشاعر كان يلعب دور "حفّار القبور" في إحدى المسرحيّات حين توفت أمّه.
* الشاعر من الجنوب اللبنانيّ والجنود إسرائيليّون.
****
*نشر في صحيفة الرأي العام الكويتيّة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق