
استدعى الرقيب الصحافيّة وقال لها: ما هذا الذي تكتبينه يا ستّ؟ وهل تظنّين أنّ الصحيفة ملك أبيك كي تكتبي فيها ما تريدين وكما يحلو لك؟
طبعًا حاولت الصحافيّة أن تفتح فمها لتستوضح الأمر، غير أنّ الرقيب الذي ما اعتاد أن يناقشه أحد أو يطرح عليه أيّ صحافيّ سؤالاً غير السؤال الوحيد المقرّر في المنهج الرسميّ للصحافة العربيّة:
"كيف حالك سيّدي الرقيب؟"
وهو سؤال كُتبت في الإجابة عنه ملايين المقالات ونشرت ملايين الأبحاث، ولولا الأزمة الاقتصاديّة العالميّة لكانت المطابع تضخّ الآن ملايين الأطنان من الورق في إعطاء المزيد من الأجوبة على هذا السؤال.
وهكذا تابع السيّد الرقيب خطابه المونولوغيّ الذي يذكّرنا بالمسرح اليونانيّ العريق:
ما هذه المقالات التي تكتبينها كلّ يوم وتعبّرين فيها عن آرائك في كلّ ما يجري حولك؟
وهل الصحيفة منبرك الخاص كي تعلني من فوقه عمّا تحبّين ومن تعشقين وماذا تريدين وماذا يزعجك وبماذا تنصحين وكيف ترين الأمور؟
وهل صحيفتنا صندوق بريد توجّهين منه الرسائل في كلّ الاتجاهات: الدولة والمعارضة والفنّانين والأدباء والتلاميذ والاقتصاديّين؟
وماذا يعني قرّاءنا الأعزّاء من أحببتِ وما هي مواصفات الحبيب وما هي مشاكلكما وكيف تتعاملان مع بعضكما وما إلى ذلك من مشاهد حياتكما الخاصّة؟
وماذا يهمّنا في صحيفتنا إن أعجبك الطقس وإن علقت في ازدحام السير وإن أزعجك التلوّث وإن أخافك الوباء وإن كانت الحرب على الأبواب، أو ما هي نسبة المطالعة في عالمنا العربيّ الرائع أو ما هو واقع الحريّة فيه؟
نحن يا آنسة صحيفة لها قرّاؤها المحترمون الذين لا تعنيهم مشاكل الآخرين ولا يحبّون أن يعرفوا أسرار غيرهم، ولا يقرأون النصوص التي تفضح خفايا النفوس.
ألا تشفقين على الأشجار التي صارت ورقًا كي يكتب عليها الناس ما يفيد البشريّة وما قلّ ودلّ من الحكم المتوارثة، فإذا بك تحمّلينها مقالات وقصائد وقصصًا وروايات ودراسات عن مشاعرك ورغباتك ونظرتك للفنّ والشعر والدين والسياسة والبيئة؟
صحيفتنا يا آنسة ليست ملكًا خاصًا لأحد، وليست مكانًا لمعالجة الأمراض النفسيّة والاجتماعيّة، وليست مؤسّسة خيريّة لحلّ المشاكل، وليست دارًا للمسنّين، وليست ملتقى للشبّان، وليست ناديًا فكريًّا للتبشير بآراء أحد، وليست وسيلة لإعلام الناس بما لا يعلمونه، وليست مدرسة لتربية القرّاء وتعليمهم.
كانت الصحافيّة طوال هذا الوقت واقفة تتلقّى سيل الأسئلة والتساؤلات الوجوديّة وتحاول الابتعاد قدر الإمكان عن المجال الجويّ الذي امتلأ برذاذ لعابه، وتنظر في الوقت نفسه إلى عنقه المنتفخة من فرط الاحتقان والغضب وحمل المسؤوليّات الجسام والدهون طبعًا، وهي تفكّر:
الآن فهمت لماذا سمّى أحمد فارس الشدياق الصحيفة جريدة! لأنّ المسؤول فيها يجيد أن يجرُد عنها كلّ ما كان يجب أن تكون عليه.
هناك تعليقان (2):
أجبتى عن تساؤلاتى
فى أخر سطر من المقال
اهو هو ده اللى بقولوا عليه هم يضحك و يبكى
شكرًا على المتابعة، كلّ ما حولنا هم يضحك ويبكي
تحيّاتي
إرسال تعليق