جاهدة وهبه في "الأزرق والهدهد": عشق أكبر من احتمال الفايسبوك
منذ بداية عملي في الصحافة، حاذرت دومًا الكتابة عن نتاج الأصدقاء الشعراء
أو الروائيّين أو الفنّانين. كنت أعي جيّدًا أنّ نرجسيّة الواحد منّا لن تحتمل لا
النقد ولا التعليق على النقد. وليس صحيحًا أنّ الاختلاف لا يفسد للودّ قضيّة، فما
من سبب للخلاف بين المبدعين إلّا الاختلاف في الرأي والأسلوب. ولأكن أكثر صراحة،
أنا نفسي لا أحبّ أن يكتب عن كتبي إلّا كلّ ما جميل، فكيف ألوم الآخر إن رفض ما قد
يلقي الضوء على ثغرات أو نواقص. وكان دائمًا الحلّ في التهرّب من الكتابة عن نتاج
الأصدقاء أو التحايل بحيث لا تبدو المقالة النقديّة سوى تلخيص أو عرض سريع لإنتاج
ما، من دون الدخول في متاهات النقد.
مناسبة هذا الكلام، رغبتي في الكتابة عن نصوص جاهدة وهبه التي أثارت
اهتمامًا شعبيًّا واسعًا في لبنان وأوروبّا والدول العربيّة، وهو اهتمام لم تواكبه
قراءة نقديّة كبيرة في الصحف، بل تجاهل بعضها الكتاب ولم يُشَر إليه إلّا من باب
العلم والخبر. وتكاد مواقع البحث عبر غوغل تكتفي بحفلات التواقيع الكثيرة التي
أجرتها الفنّانة الكاتبة، ولم أجد شخصيًّا سوى مقالة واحدة للزميلة فاطمة عبدالله،
نشرها موقع دار الساقي (ناشرة الكتاب) نقلًا عن صحيفة "النهار".
في تقديري، يعود ذلك إلى أمر واحد تتفرّع عنه أمور أخَر: علاقة جاهدة وهبه
الملتبسة بالصحافيّين الشعراء القيّمين على الصفحات الثقافيّة، مسؤولين وكتّابًا،
ما يعني أنّ جميع الذين كتبوا عن صوتها وأدائها وألحانها وجدوا أنفسهم حائرين أمام
باكورتها الأدبيّة: فهل يحتفون بها أم يخافون من دخولها ميدان الكتابة بكتاب جديد
الفكرة والتنفيذ؟ لذلك ربّما فضّل كثر تجاهل الكتاب الأوّل لمعرفة ما إذا كانت
وهبه جادّة في خيارها الأبداعيّ الجديد، وهي المعروفة بالتزامها الجادّ بعملها وخطّها الفنيّ الأصيل.
لا شكّ في أنّ نجاح الكتاب على صعيد الجمهور يعود إلى سببين لا علاقة لهما
بمضمون الكتاب، وهو كلام قد لا يرضي جاهدة وهبه: أوّلًا سمعتها الفنيّة الراقية
التي بنتها خلال مسيرتها المتنوّعة العطاء، تمثيلًا وغناء وتلحينًا، وهذا ليس
بمأخذ طبعًا. فمن أبسط حقوق المبدع أن يقطف ثمار إبداعه في أيّ حقل من الحقول التي
تتناسب مع عمله الإبداعيّ، أليس هذا ما يفعله كبار النجوم في العالم حين يتوجّهون
إلى تأسيس عمل جديد يتّكئ على شهرتهم الفنيّة. ثانيًا: الفكرة الذكيّة المدهشة
التي جعلتها تحوّل علاقة عشق افتراضيّة عبر الفايسبوك كتابًا يصعب تصنيفه: فلا هو شعر
ولا هو نثر، ولا هو رواية ولا هو أقصوصة، ولا هو مسرحيّة وإن كان يقوم على الحوار
وتحديد لمكان وزمان.
غير أنّ ذلك لا يعني أبدًا أنّ جاهدة وهبه قد أسّست لفنّ جديد وأسلوب جديد.
فأهميّة هذا الكتاب أنّه سيبقى فريدًا ووحيدًا. حتّى هي لن يمكنها أن تجعل منه
خطًا أدبيًّا ملزمًا لها، شكلًا ومضمونًا، أي لا يمكن أن تصدر وهبه كتابًا آخر له
الإخراج الفايسبوكيّ نفسه أو الأجواء الافتراضيّة نفسها. فكيف إن فعل ذلك سواها؟
سيكون الأمر استنساخًا فاضحًا ومشوِّهًا لهذا العمل المختلف! أمّا هي فلن تعجز
مخيّلتها عن فكرة ذكيّة أخرى، والحياة العصريّة تمدّنا كلّ يوم باختراع جديد يحفّز
قدراتنا.
هذا من حيث الإطار العامّ، أمّا من حيث المضمون فيجب الاعتراف لجاهدة وهبه
بقدرات لغويّة هائلة يتحكّم بها عقل بارد مهما بدا الحوار بين العاشقين محمومًا.
كلّ كلمة في موضعها، كلّ شيء مدروس (على الفايسبوك كلّنا ندرس خطواتنا، فنكتب ونمحو قبل أن نقرّر ما ننشر)، كلّ اختيار لمفردة أو علامة وقف يدلّ على
تمكّن الكاتبة من لغتها وثقافتها ومن عالم التواصل الاجتماعيّ، حتّى غياب الفاصلة
كعلامة وقف بدا لي مقصودًا، كأنّ من يكتب على الفايسبوك ألغى هذه الوقفة تحت تأثير
سرعة البوح والتعبير التي يتطلّبها هذا النوع من الحوار المكتوب.
لكنّ حداثة الشكل (صفحات الكتاب على شكل صفحات الفايسبوك) التي جذبت
الأجيال الشابّة لم تسهّل على هؤلاء القرّاء فهم المضمون المكثّف والغنيّ والجميل. وبحكم
عملي التربويّ واحتكاكي بشريحة من تلامذة المدارس وطلّاب الجامعات، اختبرت حالات
كثيرة توقّفت فيها القراءة عند الصفحات الأولى بسبب صعوبة المضمون، والحشد اللغويّ
القائم على السجع والجناس، وخصوصًا المنحى الصوفيّ الذي لا خبرة كبيرة للشابات
والشبّان بعوالمه الروحيّة. في المقابل، وجد الذين يفهمون المضمون أنفسهم مسربلين
بكتاب تفتح صفحاته بطريقة جديدة كما يُفتح اللابتوب، فضلًا عن الرموز الخاصّة
بالفايسبوك التي، لولا الثورات العربيّة، لغابت عن كثير من المخضرمين الذين كانوا
يرفضون هذا النوع من التواصل، ولا يزال بعضهم يستعين بأولاده كي يسهّلوا له
التعامل مع لغته وتقنياته. (للروائيّ حسن داوود مقالة في صحيفة المستقبل عن هذا
الأمر).
***
يا أيّها الأفق
أريدك داخلًا في مسامي لا مهاجرًا في مسارب العَرَق
أريد أن تنتحي لي زاوية في رحمي بحجم شفق
أريدك تجاعيد روحي... ازرقاق الدم اخضرار العِرق
أريدك الآه ناي الضلع الزفرَ الشهَق
أريدك الصدى هادرًا في خابيتي نبيذًا يطيب كلّما عتِق
أريد تكونُني المزار الكتاب النذور طقس الصلاة البخور عبق
أريدك لثغة الرضاب... حشرجته... فيضه... كلّما هجّرته إلى أفيائي ضحك
أريدك الدمع متى أبصروني رأوا الشمس تشرق من وادي الحدَق
أريدك فيّ كلّما رأوني قالوا ها هو... كلّما رأوك قالوا هي... قالوا سبحان
العشق
إن كان ثمّة عشق في هذه النصوص فهو عشق جاهدة وهبه اللغة، وإن كان ثمّة شوق
فإلى والدها الضابط الذي استشهد، وإن كان ثمّة رغبة فهي في أن تعيش هذه السيّدة
قصّة حبّ تقنع عقلها بقدر ما تلامس روحها وتحرّك جسدها. ومن هذا المثلّث خرج كتاب فريد، صعب، مختلف، يشبه مسيرة صاحبته التي لا تشبه إلّا نفسها.
كان نومي فيك شهيًّا... حدّ الموت... كيف شرّدتني فيك
حتّى انتابني سبات ضلعك فما عدت أهوى الصحو؟
(جاهدة وهبه)
|
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق