الشاعرة الإنكليزيّة/ الأميركيّة دنيس ليفرتوف (1923-1997)
أمام المجموعة الشعريّة "تضمنا الحياة بثغورها الصغيرة" للشاعرة
دنيس ليفرتوف وجدت نفسي حائرة بين الإعجاب واللامبالاة. بدت لي قصائدها الأولى
مملّة، غامضة، ولكن ذلك الغموض الذي لا يدفعني إلى التوقّف والتأمّل، بل إلى
العبور السريع، كأنّي غير معنيّة بما أقرأ. كدت أضع اللوم على المترجم سامر أبو
هواش، وقلت في نفسي لعلّه هو أيضًا لم يحبب هذه الشاعرة، أو أنّ عمله المكثّف في
الترجمة جعله عاجزًا عن الدخول المتعمّق في عوالم كلّ شاعر أو شاعرة من ملاعين هذه
الحياة. غير أنّ القصائد التالية بدت أكثر إثارة لاهتمامي، كأنّ الشاعرة انتقلت من
مناخ شعريّ إلى آخر ( لا ننسى أنّ هذه المجموعة المترجمة تتبع الترتيب الزمنيّ،
وبالتالي هي نماذج مختارة من شعر ليفرتوف بدءًا من قصائدها الأولى إلى الأخيرة).
ازدادت جملتها كثافة وعمقًا، وصار فيها ما يدعو – ما دعاني أنا شخصيًّا – للتفكير والتساؤل
والإعجاب، وهي الأمور التي أبحث عنها في ما أقرأه.
أحببت قصيدة "ذاك الذي كان" وهي عن الجنين الذي يتكوّن في
رحمها، وفيها تتجاور - وتتحاور - مشاعر الأمومة مع أفكار الشاعرة الثائرة المناهضة
لحرب فيتنام. فتقول:
ذاك الذي هنا حيث تحمل الحياة كثمرةٍ
موتَها البعيد، سوف ينمو
في الألم البشريّ، والفرح البشريّ،
وسيعرف الموسيقى والنحيب،
فقط لأنّ زهرة غريبة من صلبك
تفتّحت في جسدي. من فرحنا
يبدأ تاريخ شخص غريب.
دنيس ليفرتوف على غلاف مجموعة "تقضمنا الحياة بثغورها الصغيرة" |
في قصيدة "إلى القارئ" تطرح تساؤلًا مبطّنًا عن وظيفة
القارئ، وفي طبيعة الحال يعني ذلك التساؤل عن العلاقة بين الإبداع والمتلقّي،
فتقول:
ثمّة، بينما تقرأ، دبّ أبيض يبول
على مهل، صابغًا الثلج
بالزعفران.
وبينما تقرأ، آلهة كثر
يضطجعون في الكروم، عيون كالزجاج البركانيّ
تراقب أجيال أوراق الشجر.
وبينما تقرأ
يقلّب البحر صفحاته السوداء،
يقلّب
صفحاته السوداء.
أبسط المشاهد تستحقّ قصيدة من هذه الشاعرة، لا شيء يبدو سخيفًا في نظرها،
فشغفها بمقارعة السلطة الأميركيّة واعتراضها على حرب فيتنام لا يعني أنّها لا
تلتفت لتفاصيل الحياة اليوميّة كمشهد عجوز ينزّه كلبيه في قصيدة بعنوان "المتنزّهون
في المطر" حيث تبدو كمن يحاول أن يتصالح مع الحياة البسيطة، أو يحسدها، فتقول
في خاتمتها:
يمشي العجوز بين رغبات الكلبين.
ثمّ يختفي الثلاثة
في المنعطف الذاهب إلى طرف البلدة،
يكتنفهم إحساسهم ببعضهم، بالمتعة،
بالطقس، بالزوايا،
بالذبذبات العذبة التي بينهم
وبين الصمت الخاصّ.
في قصيدة "كيف كانوا" ستّ أسئلة يطرحها الزعيم الأميركيّ
الساذج على الجنديّ الذي كان في حرب فيتنام، يسأله فيها عن هذا الشعب، تلي الأسئلة
الستة أجوبة يحمّلها الجنديّ كلّ المرارة التي عاد بها من حربه العبثيّة، ففي جواب
على سؤال: "أكانوا ميّالين إلى الضحك الهادئ؟ يجيب الجنديّ "يا
سيّدي الضحكة تؤلم الفمَ المسفوع".
ولعلّنا، نحن الذين ندفن كلّ يوم ابتسامة من ابتسامات من نعرفهم، قد نجد في
قصيدة "عند ضريح دافيد" ما يجعلنا نقدر تضحية أولئك الذين
يُقتلون لنحيا عنّا وعنهم:
أجل، إنّه هنا
في هذا الحقل المفتوح، تحت نور الشمس،
بين الأشجار القليلة اليافعة
المصمّمة على تلطيف الحقيقة العارية...
إنّه هنا،
لكن فقط لأنّنا هنا.
حين نذهب يذهب معنا
لكي يكون أيديكم
التي لا ترتكب عنفًا،
عيونكم المرتحلة
حيواتكم التي تمجّد الحياة كلّ يوم
بعيشها، وبالضحك.
ليس وحيدًا ههنا قطّ،
لا يطاوله البرد في حقل الأضرحة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق