لديك ما يكفي من ذكريات
كي يكون معك رفاق على هذا الحجر اقعد وسلّهم بالقصص (وديع سعادة) |
وضع الطريق في صدره
ومشى عليها طوال العمر (وديع سعادة) |
وديع سعادة يأمر العالم بأن يتكوّن من جديد
أين تحطّ النظرة إن لم تحطّ على ناس؟
ثمّة أكثر من طريقة لمقاربة مجموعة وديع سعادة الشعريّة الجديدة، المنشورة
على موقعه الإلكترونيّ. لكن لن يستطيع أيّ دارس، مهما كانت المدرسة النقديّة التي
يرغب في اتّباع منهجها، أن يتجاهل طبيعة النصوص في كونها تدور حول الرغبة في إعادة
تكوين العالم، وإلّا فكيف نفهم ورود أكثر من مئة فعل أمر وأسلوب نهي، علمًا أنّ أوّل
كلمة يوردها العهد القديم على لسان الله هي فعل "كن" فتكوّن العالم، وأنّ
الوصايا العشر تبدأ بلا الناهية. أمّا في القرآن فأنزل الوحي بفعل أمر يقول: اقرأ
باسم ربّك الذي خلق...
وأوّل فعل أمر يرد في قصائد وديع سعادة نجده في العنوان: قلْ للعابر أن
يعود نسي هنا ظلّه. لتتوالى بعده أفعال تدلّ على الحركة: اتبع، صبّ، اشرب، أغمض،
إمشِ، قل، افرش، اخترع، إبحث، انبش، ابسط، إجلس، استرح، أقعد، مدّ، ضع، تابع،
انتشل، اخرج، انحرف، انظر، أوصل، أطعم، دلّ، أرسل، اذهب، نم، أدخل، تفقّد، استلقِ،
خذ، ...
بينما تندر الأفعال التي تدعو إلى التفكير والحلم وكلّ ما يتعلّق بالعالم الداخليّ،
ما يترك بعض مجال لأفعال قليلة تتعلّق بالوجدان والكلام: افترض، انتظر، ناجِ، سلّهم،
قصّ، أخبر، حدّث، اخترع (قصصًا)، كأنّ الشاعر يحوّل فكره حركة (للرأس 9 مفردات)
ووجدانه قولًا (للقلب 19 مفردة). ولا يخفى أنّ فعل الأمر يتطلّب متكلّمًا
ومخاطبًا، وكلاهما الشاعر فالآخر الذي هو أناه، مدعوّ إلى مشاركته رحلة تكوين العالم
من جديد، ما يتطلّب العبور من العالم القديم بعد رؤية أحواله ثمّ الانتقال إلى
العالم الجديد. من هنا لا يدهشنا أن نقع على حقلين معجميّين واسعين لكلّ ما يتعلّق
بالعبور والرؤية:
- المشي (36
مفردة)، الطريق (31 مفردة)، العبور (15 مفردة)، القَدم (9 مفردات)، الشوارع (8
مفردات)، المرور (7 مفردات)، الحذاء (3 مفردات)، فضلًا عن الحافة والمفرق والدعسة
والخطى والسفر والمحطّة والذهاب...
- نظر (30
مفردة)، العين (25 مفردة)، رأى (22 مفردة)، فضلًا عن مفردات مثل: حدّق وفقأ وأغمض
وجفن ومحجر والدمع وأعمى والتفت...
ولكن ما دلالات كلّ ذلك؟
لعلّنا نجد الإجابة في الأسطر الأولى من القصيدة الأولى وهي بعنوان
"الطريق" إذ نقرأ:
... وحين نأى هدأت العاصفة.
كان في العاصفة. مقتلعًا مخلّعًا مشلّعًا. رأسه في مكان، يده في مكان، قلبه
في مكان، وعبثًا حاول جمع أعضائه.
وفي هذه القصيدة ترتبط العاصفة بالآخرين، وجودهم يجعلها تهبّ وتقضي على ما
ومن حولها: الذي بلا اسم كان في العاصفة وكانت ترتطم به طيور ميتة تحملها
الرياح وغصون متكسّرة وجمعٌ مرتجف لا يعرفه.
لكنّ العابر قادر على أن يحوّل الارتجاف سكينة، وعلى أن يبتعد (جسديًّا أو
فكريًّا، لا يهمّ) كي تهدأ العاصفة التي ورد ذكرها في القصائد الأولى مرّات كثيرة،
وخلال رحلة النأي بالنفس (لا علاقة لها بالتسمية السائدة سياسيًّا في الوقت
الراهن) رأى ما استحقّ منه لفتات التأمّل هذه قبل أن تتحوّل العاصفة نسيمًا لم
يجده إلّا في الغابة، فنقرأ في قصيدة "اذهب إلى الغابة":
اذهب مع الهواء إلى الغابة
نم على ورقة، ادخل في أريج زهرة، واذهب مع النسيم إلى الغابة
الطير الذي مرّ أمام بيتك ولم تطعمه
تفقّده إن كان جائعًا، إن كان مات
تفقّد الأشجار التي قلت إنّها ضلوعك (هنا تذكير بالقصيدة الأولى حيث يقول: كلّ الغصون في
الشجر هي ضلوعي أيضًا...)
وعُدّ منها ما انكسر
وتفقّد مجرى النهر الذي حفرته في خيالك كي تسقيها.
ففي الطبيعة خلاصه إذًا، لا في وحدته في بيته حيث ثمّة رياح من نوع آخر
ستزعج سكينته:
الرياح تدقّ على بابه
كي تسأل لماذا تأخّر عن الهبوب معها
كان تقريبًا هواء
كان تقريبًا رياحًا
لا مكان له غير الهبوب
ولا رفيق
لا الشجر لا الحجر لا التراب
كان تقريبًا رفيق الفضاء
الفارغ.
تدقّ الرياح على بابه
على باب قلبه الذي خلعته الرياح
ودخلت
ولم تجد أحدًا.
(من قصيدة الرياح تدقّ على بابه)
أليس لافتًا كيف يتبدّل المزاج الشعريّ حين تحضر الأشجار؟
لعلّه يبحث عنها
ليبني سفينة تعبر به إلى حيث الخلاص؟ (من قصيدة: يبحث عن خشب).
***
مع ميخائيل نعيمة |
غربة الشاعر لا تغيب عن نصوصه: غربة عن المكان الذي يتركه وهو يحنّ إلى
العودة إلى حيث ترك ظلّه (يقيم الشاعر خارج لبنان)، وغربة عن الزمان يعالجها
بالذكريات مع الأصدقاء. لكنّ غربته الأشدّ قسوة هي الحياة في حدّ ذاتها بسبب هبائها
وهشاشتها، الحياة التي تترك العابرين يعبرون وتترك الحجر بلا حواس والشجر بلا
أوراق، وتتركه منصهرًا في ما حوله، عاجزًا عن التخلّص من خوفه على الآخرين ومحبّته
لهم، جزءًا من الوجود في حلوليّة لا تعرف حدودًا ولا فوارق:
مرّ على الحدائق، وصار فيه زهور. مرّ في الشوارع، وصار فيه ناس، مرّ في
الليالي، وصار فيه قمر. مرّ في النهارات، وصار فيه شمس. مرّ على المقابر، وصار فيه
موتى.
أمّا القصيدة التي توجع فعلًا فهي بعنوان "العيون أيضًا":
يعبرون، أفرادًا وجموعًا، ولا أحد ينظر إليه.
إلى أين تذهب نظراتهم، لا يعرف. أين تحطّ النظرة إن لم تحطّ على ناس؟!
يسمع أنينًا تحت الأقدام. ويعتقد أنّ من يئنّ هناك هي العيون.
انتشلِ العيون من التراب وضعْها على الغصون، فالأشجار تريد أيضًا أن تنظر.
انتشلِها وضعْها على الحجارة، فربما الحجارة تريد أن تمشي وينقصها النظر،
أو على الأقلّ تريد أن ترى من يقعد عليها.
ليس عدلًا أن لا يكون للنظرات مكان.
ليس عدلًا أن لا تعرف العيون إلى أين تذهب نظراتها.
وإن احترت إلى أين ترسل نظرة فضعْها على الطريق. قد يمرّ أعمى ويكون في
حاجة إليها.
قال هذا والجموع تعبر ولا أحد يلتفت إليه.
نظرات يتيمة في فضاء فارغ.
تمنّى لو لم يخلق لها أبًا، أمًّا، أخًا، رفيقًا...
نظرَ، ولم ير رحْمًا.
نظر، ولم يرَ.
كأنّه كان هو العابرين.
ومثلهم لم يعرف إلى أين تذهب نظرته.
***
وديع سعادة، أكنت السيّد أم المصطفى أم المنحرف أم الهابّ أم الغبار أم
الماحي، لك غيرَ وحدتك رفاق، ولك غير لهاثك طريق، يكفي أنّك كتبت:
إن نادى أحدٌ أحدًا، أينما كان، أليس عليّ أنا أيضًا أن أجيب؟ وإن كبا كائن
في أيّ مكان، ألا يجب أن يكون منّي شيء هناك كي أحنو عليه؟
كان طفلًا في حقل حين هبّت عليه أوّل ريح،
وسقطت ورقة من شجرة أمامه. انتظر علّ الريح تعود ، وتعيد الورقة إلى الشجرة (وديع سعادة) |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق