Josef Kodelka
كان طفلاً حين علّمه جدّه ألّا يثق بأحد
ألّا يثق بظلّه
ومنذ تلك الأمثولة
والطفل الذي طلب منه جدّه ألّا يثق إلّا به تعلّم ألّا يثق بأحد آخر
حتّى بظلّه
ومرّت الأيّام
والطفل
عوض أن يرفع رأسه ويراقب الشمس
أحناه ليراقب ظلّه ويكتشف متى سيخونه ويغيّر موقعه
والظلّ لا قرار له في موقعه وحجمه
فكان يدور حول الطفل، ويطول، ويقصر، بحسب موقع الشمس
غير أنّ الطفل الذي لا يعرف علم الفلك وحكاية دوران الأرض، صدّق جدّه
واقتنع بأنّ الظلّ غيرُ مخلص
وأنّه لا يثبت على حال أو في مكان ولو لازم صاحبَه
ومرّتِ الأيّام
وكبر الطفل
وصار رجلاً
فترك مدينة الشمس وذهب إلى أرض لا شمسَ فيها ولا ظلَّ يخون صاحبه
وتعلّم أن يقوم بنزهات طويلة في الضباب الذي يحجب كلّ نور
وهناك أقام، وتعلّم، وعمل، وتزوّج، وأنجب
وبقي درسُ جدّه شعارَه الوحيد
يقيس الناس في ميزان كلماته وبحسب الكفّة الراجحة يتصرّف
ودائمًا كان الثقل لكلمات الرجل العجوز
كيف لا وعمر الحفيد خيبات أمل وهزائم وفشل؟
أمّا النجاحات والانتصارات فلا تحتسب في دفتر الجدّ العتيق
***
كيف يثق الواحد منّا برجل لا يثق بظلّه؟
كيف نطمئنّ إلى شخص يدور طوال النهار حول نفسه ليتأكّد من غياب ظلّه عن الأرض؟
كيف نتعامل مع إنسان يعيش في مختبر كبير يدرس فيه تصرّفاتِ الآخرين ليتأكّد من أنّ جدَّه لا يزال على حقّ
وأنّ ما فعلته تلك المرأةُ متوقّعٌ ويصبّ في خانة الغدر
وما فعله ذلك الرجلُ طبيعيٌّ لأنّ ما قام يوضع في خانة الاستغلال
وما قالته تلك الفتاة عاديٌّ فأمثالُها فُطروا على الأذيّة
وما صَدَرَ عن ذلك الشاب ليس بغريب ما دام الناس يسيئون إلى بعضهم بلا ملل أو كلل
وما دام المرادفُ الوحيد لكلمة إنسانيّة هو الشرّ؟
***
مسكينٌ حفيدُ جدّه!
تعلّم باكرًا جدًّا ألّا يعطيَ مجّانًا
وأن يحسب جيّدًا نتيجة كلّ كلمة وكلّ حركة وكلّ فعل
فلا شيء عنده للصدف
ولا مكان للعاطفة
ولا مجال للخطأ
لكلّ إنسان بقعةٌ خاصّة به عليه التواجدُ فيها في الوقت المحدّد
وخارجَ تلك البقعة وذلك الوقت
لا وجود لهذا الإنسان الذي خان الثقة وخالف قواعد اللعبة وأغضب الجدّ في قبره
فحفيد جدّه مقتنع بأنّ من يتّصل به لا يفعل ذلك إلّا لأنّه يريد منه خدمة
ومن يحبّه إنّما يخطّط للإيقاع به
ومن يخالفه الرأيَ حاقدُ ينتظر الفرصة للانتقام منه
ومن يطلب منه كلمة حنان فسيطالبه لاحقًا بكلّ أملاكه
***
حفيد جدّه يهوى الرغبات والمتع لأنّها عابرة ولا تلزمه شيئًا
ويعشق المغامرات لأنّه يعرف سلفًا أن لا أمان لها أو فيها
ويحبّ البحر لأنّه الغدّار الأكبر فيسعى لترويض أمواجه
هو ابن السهل الداخليّ
ترك ظلّه ملقًى على ترابٍ أحمرَ تحت شمس نظيفة
وذهب إلى حيث الضبابُ والبحر وأشباح الذين غرقوا
ومنذ ذلك الزمن وهو تائه يدور حول نفسه
ليتأكّد من أنّ ظلّه لم يلحقْ به
ولم يلتصقْ بخطواته
ولا مجال كي يخونَه أو يؤذيَه
***
حفيدُ جدِّه المتعلّمُ قرأ أطنانًا من الكتب
وتأمّل آلافَ اللوحات
وأصغى إلى آلافِ المقطوعات الموسيقيّة
وبقي يشبه جدَّه الأمّي
كلاهُما يردّد العبارة نفسها
كلاهُما حزين ووحيد وقاس
ولم تستطع جنيّات الشعر والحبّ أن تعدّل في تركيبة جينات الحقد والغضب الموروثة
فالساحرة الطيّبة تنتصر في حكايات الأطفال الساذجة
أمّا في الحياة فالأمر ليس دائمًا بمثل هذه البساطة
***
فيا حفيدَ جدّك
كن تلميذًا ساهمًا في الصفّ وارسمْ وجه حبيبتك على طاولتك
كن مقاتلاً شرسًا في حرب سخيفة واحفرْ اسمها على حائط تحتمي به
اجلسْ خلف مكتبك وخرطشْ ملامح وجهها على مفكّرة مواعيدك
ولكن لا تكتبها على ورقة بيضاء مزدوجة ونظيفة
جنّ يا رجل وأعلنْها شعارًا لمرحلتك الجديدة
خربطْ نظام حياتك
إلغِ مواعيد عملك
إنسَ عمرَك وتجاربَك وخيباتِك
وواجه بها حاسديك
أصرخ باسمها وكفَّ عن هذا الهمس
إفتح شبابيك حياتك قبل أن تختنق المرأةُ بالعفن وتنخرَ الرطوبةُ عظامَها
ألا ترى أنّها لم تعد تطيق الأسرار والخفايا والزوايا
ولا أن تأسرَها بين سطرين كتلميذ يكتب بخطّ جميل لتفرح به أمّه
ويرضى عنه جدُّه الذي علّمه أن يبقى دائمًا على السطر؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق