الأحد، 25 ديسمبر 2011

الموارنة إلى أين؟ (2011 - من سلسلة الموارنة مرّوا من هنا)


مع انتخاب بطريرك غير ملتحٍ ليكون سيّدًا لبكركي، بدأت مرحلة جديدة في تاريخ الطائفة المارونيّة التي أتى راعيها وجهًا إعلاميًّا مألوفًا، لا يؤمن بالصمت والعمل خلف الكواليس، بل على العكس، اصطحب معه إلى الصرح الأب فادي تابت الخبير في الإطلالات اللافتة، والوجه الفنيّ الذي تحبّه عامّة الموارنة ولا يزعجها منه أن يكون راهبًا اختار، لا العزلة والنسك، بل الصلاة على طريقته المسرحيّة والغنائيّة الخاصّة،ما يجعلنا نتساءل عن غياب اللاهوتيّين والفلاسفة والأدباء والعلماء والمترجمين عن مأسسة بكركي وإحياء دورها الحضاريّ.  فحين ظهر البطريرك بشارة الراعي في ولاية تكساس معتمرًا قبعة رعاة البقر، ترسّخت أكثر فأكثر صورة "البطرك" المختلف غير المتخلّف عن ركب الحداثة وعصر الإعلام وتأثير الصورة في لاوعي "القطيع الصغير" وهو تعبير يحبّ الموارنة أن يُنعتوا به، ولو على حساب صور النسّاك والقدّيسين.
الموارنة من مسرح الأحداث العالميّة إلى مسرحيّة غنائيّة

لذلك من المهم أن يُعاد النظر في تكوين المجتمع المارونيّ، ورصد التغيّرات التي لم تبقه ذلك القطيع الصغير الهارب بين الأودية والجبال هربًا من الاضطهاد. ولا يخفى أنّ الأمر يتطلّب جرأة في الإجابة عن السؤال الأهمّ: عن أيّ موارنة نتحدّث؟ وهل استطاع المجمع المارونيّ الأخير أن يضع الخطوط العريضة (على الأقلّ) لما صار عليه الموارنة؟ وهل يكفي استذكار التاريخ المجيد لنطمئنّ إلى المستقبل القريب؟
الحرب اللبنانيّة الطويلة، التهجير والهجرة، ثورة الاتّصالات، سرعة المواصلات، كلّها مجتمعة نقلت الموارنة من عهد يغلب عليه طابع الجبل والزراعة إلى طابع مدينيّ لا علاقة له بالأرض، بل صار "التغريب" وأقصد به التطلّع نحو الغرب حلاًّ مثاليًّا لهؤلاء الذين اعتبروا، عن خطأ أو عن صواب، أنّ الشرق يبتلعهم وأنّ العرب يرفضونهم، وأنّ الإسلام يريدهم أهل ذمّة. ولكنّ التغريب لم يزد الموارنة إلاّ تشتّتًا وضياعًا لأنّه لم يتّكئ إلّا على مظاهر خارجيّة سطحيّة وسخيفة، لم تطل الجوهر. وها هي الثورات العربيّة تكشف تمسّك العرب المهاجرين إلى الغرب بهويّتهم ولغتهم (على اختلاف هويّاتهم الدينيّة والحضاريّة) في حين لا يعرف الموارنة من هم وماذا يريدون.

ابنة الكاهن المارونيّة الحديثة (الصورة عن الفايسبوك)
والأب المتحالف مع الأصوليّة الإسلاميّة يمهّد الطريق لراعي الأبرشيّة
كيف تبدو صورة الموارنة اليوم؟ بعدما كانوا إلى الأمس القريب علماء وشعراء وقدّيسين، يبدو الشعب المارونيّ الآن موزّعًا بين العمل قطاعات الخدمات (مصارف، سياحة، مطاعم، فنادق، نقليّات، تخليص معاملات...)، أو العمل في المجال الفنيّ الترفيهيّ الذي لا يتطلّب دراسة أو تعبًا أو وقتًا. ما يعني أنّ المارونيّ الذي كان مزارعًا، يستقرّ في الأرض ويرتبط بها، ويعطيها بصبر ومحبّة لتعطيه بسخاء ومحبّة، صار لجوجًا يريد الربح السريع مهما كان نوع العمل. كلّ هذا والكنيسة المارونيّة، بكهنتها ورهبانها وراهباتها وعلمانيّيها، تمضي إلى أواخر عهدها الذهبيّ، واثقة الخطوة ملكة ستبكي قريبًا على مجد أُعطي لها فبدّدته.

الخوريّة المارونيّة في هذا العصر (الصورة عن الفايسبوك)

لم يرغب أحد في رؤية علامات الأزمنة، ورفض الجميع الاعتراف بارتدادات الهزّة الكبيرة التي أصابت الموارنة يوم دخلوا كطائفة في السياسة وأزمات المنطقة وهم غير مسلّحين بوحدتهم أو فكرهم أو تاريخهم أو إيمانهم. وهذا الغباء المقرون بالكبرياء كان الضربة التي قضت على إمكان خلاصهم وتخليص سواهم، لا المسيحيّين من مذاهب أخرى فحسب بل كلّ راغب في الحريّة والديمقراطيّة والعلمنة. ولم ينتبه أحد إلى انخفاض عدد المتفوّقين في المدارس، أو عدد الناجحين في الجامعات الأجنبيّة، أو عدد المنتسبين إلى وظائف حكوميّة تجعل الموارنة جزءًا أصيلاً من تركيبة الدولة لا عنصرًا غريبًا مفروضًا لحفظ توازنات معيّنة. ولم يحصِ أحد في المقابل عدد البرامج التلفزيونيّة السخيفة والمهينة التي تعرضها شاشات مسيحيّة ومارونيّة، أو عدد المتقدّمين إلى برامج النكات والألعاب أو عدد المتسكّعين في النوادي الليليّة، أو عدد هواة الفنّ الرخيص، وما إلى ذلك من مؤشّرات تفضح التغيّرات التي تصيب هذه الطائفة التي كانت تفتخر حين يُشبّه العلماء في العالم بهم، فإذا بهم اليوم مسخرة الشعوب بسبب انقساماتهم وضياعهم وجبنهم.
لا مانع في أن تحدّد الكنيسة المارونيّة رغبتها في هذه "الحداثة"، لكن عليها أن تعلن ذلك بالفم الملآن، وعلى مسمع الجميع وأن تعترف بأنّ المارونيّة الجديدة لا علاقة لها بالنسك أو الصومعة أو الدير، هي مارونيّة حديثة ولها مواصفات تختلف عمّا كانت عليه إلى زمن قريب.
***
حين عُرض مسلسل "الشحرورة" اكتشف المتابعون أنّ جدّها كان كاهنًا. وسمعت كثيرين يتساءلون في ريبة عن مآل الأمور في عائلة ربّها ووليّ أمرها كاهن، فكيف يكون والد صباح على هذه القسوة وكيف يكون لوالدتها عشيق وكيف ترحل حفيدة خوري الضيعة حلف حلمها الفنيّ لتعود بعدد من الأزواج لم يحمل لها أحد منهم بعض سعادة؟ وأيّ دور للكنيسة ولهذا الجدّ الكاهن في توجيه هذه العائلة وتصويب مسارها ومسيرتها؟ سؤال يصحّ طرحه على الكنيسة المارونيّة في كلّ مناسبة.
الخوريّة وولدها




ليس خطأ أن يختار أولاد الكهنة أو أخوتهم أو هم أنفسهم الغناء أو التمثيل، لكن لماذا لم نسمع بالذين اختاروا فنّ الرسم أو العزف أو الشعر؟ ولماذا لم نعرف بأمر متفوّق منهم في العلوم التطبيقيّة؟ الجواب البسيط هو الأضواء والشهرة والكسب السريع.
حتّى الشهرة والربح الماديّ ليسا خطيئة، ولكن تحت أيّ عنوان نضع صور زوجات الكهنة وبناتهم في لباس البحر وهي منشورة على صفحات التواصل الاجتماعيّ المتاحة للجميع؟ وما هي الرسالة التي يحملها البذخ في ممارسة الرياضة المكلفة واختيار الملابس الأنيقة وعمليّات التجميل وارتياد أرقى الجامعات، أمام مجتمع ترتفع فيه نسبة الفقر والعوز؟ وكيف نفهم أن يؤمّن كاهن كلّ ذلك لعائلته وهو يتعالى عن قبول حسنات أبناء الرعيّة وبدل أتعابه في القداديس؟ ألم يسأله أحد من أين لك هذا؟
هل يكفي ذلك أم نفتح صفحة المغتصبين والمعتدين والسارقين ومجرمي الحرب الذين خلعوا ثوب القتال وارتدوا ثوب الكهنوت ليهربوا من العدالة أو سجّل المرشّحين لمراكز أسقفيّة ولا يزال التحقيق جاريًا في شؤونهم؟

لا تستطيع طائفة تتباكى على مجدها الغابر أن تواجه احتمال ذوبانها وهي مسلّحة بفرقة دبكة أو جوقة الزجل أو نجوم مسلسل تلفزيونيّ طويل (على أهميّة هذه وجماليّة ما تقدّمه). ولا يمكن لطائفة قامت على مبدأ النسك أن تقيم على مقربة من صومعة وعينها على هوليوود. ومن غير المنطقيّ أن تتمسّك هذه الطائفة بلبنان وطنًا نهائيًّا (كما يُقال) وقلوب أتباعها وعقولهم مع زوجات وأزواج غربيّين وأقصى أحلامهم جنسيّات أجنبيّة.  ثمّة شيء لا يقبله العقل في كلّ هذه الفوضى غير المنظّمة وغير الخلاّقة التي تجعل الموارنة يفهمون الحريّة على قياس من يستطيع نيلها، والهويّة على نظام: مطرح ما بترزق إلزق.
وحين يصير إرث مارون ملكًا للذين (واللواتي) يكيلون الأمور بمكيالين، ويحرّمون ويحلّلون كما يحلو لهم فذلك يعني أنّ التاريخ لن يتأخّر عن كتابة ما توقّعته لهم منذ خمسة أعوام: الموارنة مرّوا من هنا.

ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.