منطقة الزيتونة ويبدو إلى اليسار مقهى الحاج داود |
فندق السان جورج - الزيتونة - 1930
لا مكان لمسرح لبيروت في ما يُخطّط لبيروت |
فندق السان جورج اليوم |
برج المارينا |
Zeitouna Bay
زيتونه باي أو خليج منطقة الزيتونه أو باي باي بيروت
يسرقون منّا البحر بكلّ وقاحة، يجعلونه جميلاً، لا جدال في ذلك، لكنّه لم يعد بحرنا، ولا نستطيع أن نقصده بغير ثياب أنيقة وثمينة تليق بالمكان وروّاده الأثرياء وجميلاته المتسكّعات ورجال الأعمال الذين يتصرّفون كأنّهم يملكون الخليج وكلّ ما يحيط به على امتداده ووسعه...قدّ البحر.
أنا مع الجمال والنظافة والأناقة، وهي أمور لا أتساهل فيها ولا أغضّ الطرْف عن المسيء إليها والمتعرّض لها بالبشاعة والقذارة والفوضى. ولكن بيروت صارت مثل نسائها المتصابيات السليكونيّات، لا شكل لها معروفًا، ولا عمر محدّدًا، ولا طابعًا مميّزًا. أعرف أنّ الأمر لم يعد ينفع الكلام فيه، فحيتان المال ابتلعوا المدينة بأسواقها العتيقة التي كانت لنا، وناسها البسطاء الذين كانوا أهلنا، وبيوتها حاضنة الشمس عند المغيب، وشوارعها التي تختلط فيها الطبقات ولا أحد يسأل. أعرف أنّ وقت الحكي راح، ولن يأتي وقت لعمل شيء آخر، فلقد فات الأوان والمدينة التي تتوسّع إلى البحر، وتنطح السماء، تحمل عناصر موتها، وسوف تسقط، لأنّ لعنات كثيرة لا تزال تصبّ على هادمي إرثها وراسمي خرائطها وبائعي أرضها والشراة. لعنات سوداء كالمياه المبتذلة التي تصبّ في بحر المدينة الشوهاء.
تناولت القهوة اليوم في أحد مقاهي "خليج الزيتونة" بناء على دعوة أحد الأصدقاء. لم تنته الأعمال في أكثر مقاهي المنطقة ومطاعمها وأرصفتها ومحّالها التجاريّة. أمامي عشرات اليخوت الجميلة، وخلفي مئات السيّارات الفخمة، وأنا لا خيل عندي أهديها، وليس معي إلّا كلمات أكتبها في رأسي، ونظرات تلتقط جماليّات المكان، وترصد حركة الندل والروّاد، وتسجّل إيقاع الحركة في مكان قرّر منذ لحظة التفكير فيه من هم المقبولون فيه ومن هم المرذولون.
سيقتل المدينةَ هذا البذخُ الذي يجاور الفقر، ثمّة وقاحة في أن تمتلك هذا القدر من الجمال والمال وحولك فقراء معوزون ومرضى عاجزون، وفي مجتمع ينجو فيه الناس من الموت بالمساعدات الإنسانيّة في الأعياد لا باهتمام الدولة ولا بعناية مؤسّساتها. ثمّة عهر في أن تُعرض المفاتن على من يُلام إن حلم بها، أو نظر إليها. ثمّة إجرام في أن تُفتح أبواب المقاهي وتقفل أبواب المسارح، وتصير الكتب عنصر ديكور في مقهى لا يقرأ الناس فيه بجديّة إلّا لوائح الطعام.
في زيتونة باي، لا زيتون ولا نساء يقطفن الزيتون، ولا رجال يحملون الأكياس المتخمة إلى معاصر يقطر منها ذهبُنا الأصفر. في زيتونة باي، لا يسع أبناء جيلي سوى أن يقولوا: باي باي يا بيروت، فلقد انتهيت إلى ما لم نعد نعرفه.
المشكلة التي يطرحها هذا النوع من الكتابة هي في أنّ الكاتب سيوضع في إحدى الخانتين اللتين لا ثالث لهما في لبنان: فأنا الآن مثلًا في رأي بعض القرّاء ضدّ مشروع إعمار بيروت، وبالتالي ضدّ سوليدير، وبالتالي ضد 14 آذار. وفي رأي آخرين أنا مع حزب الله، ومع التيّار العونيّ، ما يعني في نظرهم أنّني لا أريد لبيروت أن تلبس حلّة الحداثة والتطوّر بل أن تمتنع عن تقديم الكحول وترتدي زيّ التديّن. في الحقيقة لم يعد يعنيني في أيّة خانة يضعني الآخرون، كلّ الآخرين. فأنا أمينة لذاكرة تريد أن تبقى، ومنفتحة على فكر يريد أن يفهم ماذا يفعلون بهذه العاصمة المسكينة، وأن أقتنع بأنّ هذا الجمال الباهر ليس مصطنعًا ومخادعًا وليس على حساب آلاف المرضى والفقراء، أو على حساب مؤسّسات الدولة التي كان عليها أن تُبنى لتستقطب الأدمغة المهاجرة واليد العاملة الهاربة إلى حيث العمل.
مُضيفي إلى فنجان القهوة لم يكن يهجس بمثل هواجسي، كان خياره واضحًا مذ اختار مكان اللقاء، وهو أنّ بلاد العالم التي زارها فيها أماكن كهذه، وبالتالي الأمر ليس مستهجنًا أو غير لائق. وكان من غير الضروريّ أن أقول له إنّ بلاد العالم الأخرى التي فيها مثل ذلك أمّنت في أكثرها لشعوبها ما يسمح لهم بالاستمتاع بهذا الجمال من دون التفكير في تأمين التعليم والاستشفاء وحفظ الكرامة، وفي أقلّها ثار الشعب مطالبًا بحقوقه. أعتقد أنّه في قرارة ذاته يعرف ذلك ولو لم أذكّره به.
فأين نحن من كلّ ذلك في حين يرى كثر أنّ مايا دياب هي امرأة العام في لبنان في كونها أثبتت وجودها وحقّقت ذاتها وحقّقت لذاتها ما تصبو إليه؟
ثمّة شيء مشترك بين خليج الزيتونة ومايا، فكلاهما جميل ومثير ويبدو كأنّه يدعو إلى الحياة، لكنّه في العمق يحمل في ذاته أسباب زواله، وهذا في حدّ نفسه سبب آخر للحزن.