الخميس، 25 أغسطس 2011

لا وقت للحزن...لا وقت للخطيئة


الأحد ظهرًا توفّي الرجل بسبب أزمة قلبيّة حادّة. بعد الظهر، انتشر الخبر في سرعة.

الاثنين صباحًا، وصل عشرات من زملاء الرجل إلى مكتب المدير وقدّموا عشرات الطلبات للعمل مكان الراحل الشابّ.

بعد ظهر الاثنين، كان الزملاء كلّهم يشاركون باكين في وداع الموظّف الذي رحل تاركًا زوجة شابّة وولدين صغيرين وعشرات من الزملاء وكثر من العاطلين عن العمل.

بعد ذلك ببضعة أيّام كانت الأرملة الموظّفة تسرع إلى عملها بعدما تناولت مهدّئات الأعصاب والأدوية المقويّة ورغم عجزها عن النوم منذ أن وقعت عليها المصيبة. تعرف أكثر من سواها أن لا وقت للحزن، لا وقت سوى للركض إلى العمل، فالحالة لا تسمح بالاستسلام لمشاعر يمكن تأجيلها إلى الليل، إلى يوم العطلة، إلى يوم الصلاة، إلى ساعة الجنّاز. أمّا يوم العمل المقدّس فحرام أن تظهر فيه الأرملة مشاعرها. متطلّبات الوظيفة تفرض الالتزام بدوام دقيق، وشكل لائق، وقدرة على ضبط الأعصاب...وإلّا فالمتربّصون بالوظيفة أكثر من الهمّ المتربّع سعيدًا على قلب المرأة التي أجّلت البكاء على زوجها إلى سنّ التقاعد.

فهل تعتب الزوجة على الأصدقاء إن تسابقوا إلى ملء الفراغ الذي تركه زوجها في مكان عمله؟ هل تعتب عليهم إن تأخّروا في زيارتها للتعزية ومشاركتها في حمل صليب الألم والوحدة؟ لا شكّ في أنْ لا وقت لديها لإحصاء الذين أتوا أو تغيّبوا.كانوا يقولون حتّى الأمس القريب: عين المحزون ضيّقة، أي أنّ الحزين يتنبّه لكلّ تقصير ويسجّل كلّ غشارة فرح في غير موقعها أو في غير وقتها. أمّا اليوم فالمحزون نفسه لا يجد الوقت لممارسة حزنه على النحو الذي يروق له ويريحه ويفرّج عنه، فهل يعتب على الآخرين؟

الحياة هي الضيّقة اليوم، همومها والجوع المهدّد والكرامة المهانة في كلّ لحظة، كلّها أمور تجعل الاستسلام للحزن ترفًا لا يملك أكثرنا الوقت لإيفائه حقّه، لكأنّ هذا السارق الذي اسمه الموت بات عليه أن يأخذ موعدًا يلائم مفكّرة الأسبوع أو الشهر الممتلئة سلفًا بمواعيد لا يملك أحد الجرأة على تعديلها أو الإخلال بها. إنّ اجتماعات العمل والمضاربة في الأسواق والتنافس على المراتب الأولى والكراسي المريحة مهمّاتٌ شريفة وكريمة لا يمكن أن يجبن موظّف أو عامل عن القيام بها ولو كلّفه ذلك أن يغضّ النظر عن نعي قرأه في الصحف أو يتجاهله. فمن السهل اليوم أن تقول: لا وقت عندي (ولا مال) لأقرأ الجريدة. وسيصدّق الجميع عذرك إن التقيت يومًا بمن قد يعاتبك أو يسألك عن تغيّبك وتقصيرك.

في أيّ حال، كيف يعاتبك من يعرف أنّه في ظرف مماثل سيفعل مثلما فعلت. وهل يعاتب من يصلّي ليل نهار كي لا تصله بطاقة دعوة إلى عرس، وخاصة تلك التي تتضمّن بطاقة صغيرة ترشدك إلى حيث عليك أن تختار ما تريد من الهدايا، أو تدلّك إلى المصرف الذي تدفع فيه مبلغًا تساهم عبره في زواج لا ناقة لك فيه ولا جمل ولا عروس أو عريس؟ وهل يعتب من يتمنّى ألاّ يعرف بأمر دخولك المستشفى، لا خوفًا عليك بل لأنّ عيادتك ستكلّفه فضلاً عن الهديّة/ العبء مبلغًا محترمًا من المال تدفعه إن ركنت سيّارتك في موقف لا يستعجلك أبدًا؟

لا وقت لأيّ شيء ماتع! حتّى الخطيئة في معناها الجميل المتحدّي لم نعد نجد الوقت لارتكابها، ولا أقصد هنا تلك الجرائم والجنح التي يُعاقب عليها القانون وتعود لأسباب نفسيّة أو اجتماعيّة. أتكلّم عن "الخطايا"، وأضع الكلمة هنا بين مزدوجين، التي يصاحبها الترف وتغذّيها المعرفة ويثيرها الشعر وتغريها الفنون وتداعبها الموسيقى. خطيئة الخلق، كيف نجد الوقت لارتكابها؟ بل من أين لنا القوّة للتفكير فيها والرغبة في ارتكابها ونحن مصابون بنوع خطير من القرف يصاحبنا طول يوم العمل الذي لا ينتهي إلّا بتعب شديد وحزين عميق لا يغريان أيّ شيطان بمتعة ملاعبتك؟

لو كانت الأزمة الاقتصاديّة همًّا يقلق آدم وحوّاء لما وجدا على الأرجح الفرصة لاشتهاءٍ ورغبة وسماعٍ مغرٍ، ولكنّ العروسين السعيدين كانا يملكان الوقت وما كانت مواعيد العمل ترهق فكرهما الذي انصرف إلى البحث عن جديد لا يعرفانه، عن جديد يختبرانه. وكانت النتيجة أن بدأ الإنسان بالعمل. بعرق جبينك تأكل خبزك. كأنّ الامتناع عن ارتكاب الخطيئة اليوم لم يبقَ قرارًا شخصيًّا تتحمّل وحدك مسؤوليّته، فأنت إنّما تخطئ – هذا في حال تمّ الاتّفاق على مفهوم الخطيئة – بسبب لم تختره ولم يكن لك رأي في اختيار موعده أو نوعه، وإن لم تخطئ فلأنّك وفي بساطة لم تجد الوقت لذلك، لم تجد دقيقة واحدة فارغة من همّ العمل ودفع الفواتير لتواجه نفسك برغباتها وميولها وشغفها وكبريائها، وأحلامها وشذوذها ونقاط ضعفها أو مصادر قوّتها، ثمّ تقرّر وحدك ما الذي ستفعله بكلّ ذلك وكيف ستتعامل مع كلّ هذا الذي فيك.

وفي مكان آخر من هذه اللوحة الجداريّة الكبيرة التي اسمها المجتمع، يبدو أولئك الذين يملأون صيفهم مهرجانات وحفلات ورحلات مستمتعين بالوقت إلى أقصى حدّ، ولا يسعهم إلّا أن يملأوا رأسك ويصدعونك بأخبار ما شاهدوا وسمعوا واختبروا، كأنّهم في كلّ ذلك إنّما يسعون إلى إعلامك بأنّهم صاروا من النخبة المثقّفة. ما الذي يقوله بعض هؤلاء؟ عن المهرجانات يقولون: لاحقين على المطاعم بالشتي، وشو في بهالبلد غير أكل وحفلات؟ وعندما تنتهي الليلة يخبرون عمّن كان بين الناس وبمن التقوا لا عمّن كان على المسرح.

أمّا بعد الرحلة السياحيّة فعليك أن تستعدّ لجلسة تُرغم فيها على متابعة التفاصيل صورةً صورةً بالشرح الوافي والدقيق والمملّ. لكنّك قد تقع أحيانًا على جهل تامٍ ومهين للعائد فخورًا من رحلته السندباديّة إذ يعجز عن الإجابة عمّا تعرفه أنت لأنّك، وفي كلّ بساطة، قرأت كتابًا أو شاهدت برنامجًا وثائقيًّا. ومع ذلك يبقى حضور المهرجانات والسياحة عنصرين مهمّين في ارتقاء سلّم الترقيات، ولذلك يسعى موظّفون كثر إلى إعلام المسؤولين عنهم بأيّ وسيلة "بما ضحّوا بالكثير لتحقيقه حبًّا بالثقافة وللحفاظ على الصورة الإعلاميّة للشركة أو المؤسّسة". فهل ننتظر من هذه الحركات الثقافيّة تغييرًا ورُقيًّا إذا كان بين جمهورها أشخاص يريدون أن يُشاهَدوا لا أن يشاهِدوا؟

يجب ألّا يمتلئ الوقت إذًا إلّا بما يضمن المحافظة على الوظيفة: غداء العمل، العلاقات العامّة، الخدمات المجّانيّة، التخلّي عن الالتزامات العائليّة...وكلّ ما عدا ذلك مجازفة على الموظف تحمّل عواقبها الوخيمة.

لا أعرف إن كان ما أكتبه هو لأنّي لم أصدّق ما يعرفه كثر سواي، وهو أنّ الناس يرحلون فجأة ولن ينتظروا كي ننهي أعمالنا لزيارتهم. ولا أعرف إن الذي أكتبه يبدو شديد التشاؤم والسخرية وفيه كثير من التعميم والشموليّة، وأخشى أن يقرأ الحالمون ما أفكّر فيه فيخافون من مجتمع لا يعدهم إلّا بالقسوة والمنافسة على حساب المشاعر الإنسانيّة. ولكنّي أعلم أنّ الإيقاع الذي نرقص كلّنا على ضرباته السريعة لن يوفّر أحدًا:

فعندما يفرض برنامج العمل على الوالدة أن تؤجّل ثلاثة أشهر موعد ابنتها مع الطبيب لأنّها لا تستطيع أن تطلب إجازة،

وعندما يعجز الابن عن المكوث إلى جانب سرير والده المريض إلّا في الوقت الذي يسمح به جدول الأعمال،

وعندما يلغي الشابّ عشرات المواعيد مع صديقته لأنّه ملزم بأعمال لا يستطيع أن يؤجّلها بحيث تتناسب مع أعمالها ومواعيدها،

وعندما تسأل الموظّفة الطبيب إن كان في الإمكان تأجيل العمليّة الجراحيّة لوالدتها لتتزامن مع عطلتها السنويّة،

عندما يحصل كلّ ذلك، وهو يحصل كلّ يوم، فذلك يعني أنّنا نعمل من أجل أشخاص قد لا نجدهم ساعة ينتهي دوام العمل.

وكم حزين أن تعمل من أجل لقمة خبز لا تجد من يشاركك فيها!

وكم مخيف أن تمتنع عن الكتابة أشهرًا لأنّك تريد أن تعطي وقتك كلّه للعمل الذي يؤمّن لك راتب آخر الشهر! و

كم مؤلم أن تشعر دائمًا بالخوف لأنّ كثرًا ينتظرون رحيلك ليستولوا على وظيفتك!

هناك تعليقان (2):

جمال السيد يقول...

هو حس الروائية في مريم، قدرتها على التقاط الجزئيات، وهي عينها الشاعرة التي تعرض علينا، بلغة جزيلة وصورة ناطقة، ما نشاهده يومياً ونعاني منه ولكنا لا نقدر على التعبير عنهن وأحياناً لا نريد أن نتذكره لأنه مؤلم ومخجل. إنها تحول اليومي إلى فن خالص وإن معمولاً من الخوف والوجع. عافاك.

ماري القصيفي يقول...

وهل أسمح لنفسي أن أكون أقلّ من ذلك أمام قارئ شاعر فنّان ناقد خبير مثلك؟

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.