مدافن المجانين...طبعًا ليسوا زعماء العالم العربيّ
ورد هذا الخبر في الصحف:
دفن الموتى مهنة تجذب شبابًا ألمانًا
الدروس في مقبرة والتخصّص 3 سنوات
يحفرون قبورًا وهميّة ويقومون بمحاكاة مراسم دفن. إنّهم قبّارو المستقبل، الذين يتدرّبون على المآتم في مقبرة التدريب الوحيدة في ألمانيا، لا بل في أوروبا، الواقعة في مدينة صغيرة في مقاطعة بافاريا. دفن الموتى مهنة تجذب جيلًا جديدًا في بلد يطعن سكانه في السنّ أكثر من أيّ من جيرانه الأوروبيّين.
تعتمر "ليزا ماغيرا" خوذة بيضاء، وهي تحفر بمعول بتركيز كبير. من الصعب الحفر في الأرض التي يغطيها الجليد. إلى جانبها نصب مصنوع من الرخام الرمادي حُفر عليه: "الزوج الحبيب والوالد الصالح أوغست فيشايت 1978-1961". في المدفن التدريبيّ في مونرشتات، وهو الوحيد من نوعه في أوروبا، على ما تقول إدارته، لا زهور ولا أكاليل. وماغيرا، وهي من هامبورغ (شمال)، واحدة بين 525 متدرّبًا يتلقّون تدريبًا في الوقت الراهن. وخلال ثلاث سنوات تتخلّلها دروس نظريّة وحصص تدرب، يلقّن هؤلاء كلّ شيء في هذا المجال، من استقبال العائلات المفجوعة، إلى بناء مدفن من الإسمنت، مرورًا بالنعش أو كتابة إعلان النعي.
المدرّب "فيليم لاوتنباخ"، الذي أتى من هانوفر يقول إنّ دفن الموتى كانت مهنة تورّث أباً عن جدّ من مدّة طويلة. الشركة التي يملكها أسسها أحد أجداده العام 1896، ويتوقّع أن يواصل ابنه من بعده العمل في هذا المجال. إلّا أنّه يشدّد على أنّ "تحوّلًا يحصل اليوم"، وأنّ أشخاصًا من آفاق متنوّعة يأتون الى هذه المهنة تدريجًا. ويقول: "يتمّ الحديث أكثر عن هذا الموضوع، ويتمّ التفكير كثيرًا في أنّ ثمّة موتًا بعد الحياة".
سجّلت في ألمانيا العام 2009، 10,4 وفيّات لكلّ ألف مواطن، في مقابل 8,1 ولادات. المجتمع الألمانيّ يشيخ أسرع من مجتمعات الدول الأوروبيّة الأخرى، إذ بلغت نسبة من هم فوق الـ65 20,7% العام 2010، ما يجعل ألمانيا تتقدم على إيطاليا (20,2%)، واليونان (18,9%)، يفيد "يورستات" مكتب الاحصاءات الأوروبيّة.
وتقول ماغيرا: "في البداية، عندما كنت أقول إنّني أتدرّب لأصبح حفّارة قبور، كان يقال لي: فعلًا؟ كيف انتهى بك المطاف الى هذه المهنة؟". وتتدارك: "قبل ذلك كنت ممرّضة. وعندما كان شخص يموت، كنت أراقب عمل شركات دفن الموتى عندما كانت تأتي لأخذ الجثّة. وكان الأمر يثير اهتمامي".
من جهتها، تقول لارا أشير (20 عاماً) بحماسة "إنّه عمل ممتاز. وكنت أريد أن أعمل في مجال يهتمّ بالانسان، وليس الجلوس طوال اليوم في مكتب". وبين ضربَتي مطرقة لتثبيت مسكات النعش الفولاذيّة، يقول كريستيان ريشتر (24 عامًا): "أصعب ما في هذه المهنة إرضاء عائلة الميت. وهذه النقطة هي الأهمّ أيضًا".
إلى جانب المشغل، يضمّ مركز التدريب "صالة النظافة الصحيّة"، حيث يلقّن المتدرّبون فنّ غسل الموتى بموادّ مطهّرة وأخرى تحفظ الجثّة أياماً عديدة. أمّا بالنسبة إلى التعامل مع الجثث، فتقول ماغيرا إنّ "هذا الأمر جزء من المهنة. بالتأكيد في البداية الأمر غريب بعض الشيء... إلّا أنّنا نقوم بذلك على مراحل ونعتاده". وما مفتاح النجاح في هذه المهنة؟ ترى أنّه "يكمن في اظهار التعاطف والمحافظة في الوقت نفسه على مسافة معيّنة".
خلال فترة التأهيل، يتدرّب المرشّحون خصوصًا على أشخاص توفوا ووهبوا العلم جثثهم، على ما تفيد مديرة المركز الإداريّة "روزينا ايكرت". وتسمح كنيسة مع مقاعد ومنبر وأكاليل اصطناعيّة بتنظيم مراسم دفن وهميّة. وعلى مسافة قريبة تقترح مكتبة "معجمًا لخدمات دفن الموتى" وكتابًا عن "نفسيّة الحداد"، وآخر عن التسويق في مجال دفن الموتى.
***
كان يمكن الاكتفاء بهذا الخبر الذي تناقلته وكالات الأخبار الأسبوع الماضي، فهو، ومن دون أيّ تعليق، يوحي لكلّ قارئ بأفكار تختلف بحسب المزاج والظروف الاقتصاديّة والعمر. غير أنّني أرغب في لفت الانتباه إلى أنّ فرصة العمل هذه ستكون أكثر "متعة" و"راحة" في بلداننا العربيّة. فإذا كان الألمان يموتون من الشيخوخة فهذا يعني أنّ المآتم ستكون رتيبة مملّة وكلمات التأبين لن تختلف بين دفن وآخر. أمّا عندنا فالأمر أكثر إثارة وتشويقًا وتنوّعًا:
1- الموتى عندنا من مختلف الطبقات الاجتماعيّة ومن شتّى الفئات العمريّة ومن طوائف ومذاهب تثير "شهيّة" الخطباء. وهذا يعني أن لا مأتم كالآخر، هذا التنوّع من ضمن وحدة الموت يسمح بإيجاد فرص عمل لعدد كبير من الناس في ظلّ أزمة اقتصاديّة عالميّة ومحليّة.
2- في ألمانيا يعانون صعوبات في الحفر، في الثلج مثلًا، بينما أكثر بلداننا العربيّة رمليّة، يعني: احفر واقبر. حتّى ليمكننا القول إنّنا نملك من الحفر ما يجعلنا نطالب بعدد إضافيّ من الموتى.
3- نحن لسنا بخلاء كالأوروبيّين ولا نكتفي بـ"حفلة" الدفن، فعندنا تذكار اليوم الثالث، والأسبوع، والأربعين، والسنة. ثمّ هناك احتفال تأبينيّ أو صلاة كلّ سنة ما دام للراحلين سلالة تذكرهم. وهذا في حدّ نفسه ربح لشركات دفن الموتى ورجال الدين والمطاعم ومتاجر الألبسة للسيّدات اللواتي يغتنمن المناسبات لعرض أزيائهنّ السوداء، ولمزيّني الشعر، ...فالمناسبة إذًا تحرّك العجلة الاقتصاديّة ولو كان الميت مطحونًا تحت عجلة سيّارة لم يتعلّم سائقها أنّ العجلة من الشيطان.
4- في بلادنا تتعدّد أسباب الموت ما يعني فائضًا في عدد الموتى لا يوجد حاليًّا في أيّ بلاد أخرى. وهذه فرصة لن تتكرّر لطالبي العمل والثروة، فإذا كان الغرب الأميركيّ جذب المنقّبين عن الذهب في مرحلة تأسيس الولايات المتحدة، فنحن الآن نجذب حفّاري القبور. يكفي الشهداء. هؤلاء وحدهم قادرون على "قبر" الفقر، والأنظمة العربيّة والقضايا القوميّة قادرة على تأمين ضحايا على مدار الساعة، ومن لا يُقتل برصاص الدولة، تمعسه المظاهرة، أو يختنق من دخان القنابل المسيلة للدموع، أو بالسكتة القلبيّة أو انفجار في الدماغ أمام نشرة الأخبار.
5- هذه أخيرًا فرصة "ذهبيّة" بالفعل لا بالاسم لمن يعتاش من الكلمات إذا وظّفها في الرثاء والتأبين وكلمات العزاء في عالمنا العربيّ المغرم بالندب والتفجّع.
فإن كنتما، صديقيّ القارئة والقارئ، تبحثان عن شهادة تخصّص وفرصة عمل، فلا داعي للهجرة إلى إلمانيا أو سواها، بل احملا رفشًا واحفرا قبرًا، واسمعا ولو متأخّرَين كلمة ميخائيل نعيمة حين قال:
أخي! مَنْ نحنُ ؟ لا وَطَنٌ ولا أَهْلٌ ولا جَارُ
إذا نِمْنَا ، إذا قُمْنَا رِدَانَا الخِزْيُ والعَارُ
لقد خَمَّتْ بنا الدنيا كما خَمَّتْ بِمَوْتَانَا
فهات الرّفْشَ وأتبعني لنحفر خندقاً آخَر
نُوَارِي فيه أَحَيَانَا
فلتسمح لنا ألمانيا، لأنّ شغلتنا، أبًا عن جدّ، وعن جدّ وبلا مزح، "نحفر ونطمّ"، وليعملوا هم في صناعة السيّارات والآليّات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق