اليوم أيضًا استيقظت على ضجيج جارتنا المجنونة في الطابق العلويّ. امرأة لا أذكرها إلّا غاضبة، تكره الناس والأشجار والعصافير. تحمل مكنستها الطويلة الساق وتلاحق بقشّاتها المتكسّرة أوراق الأشجار المتطايرة، ثمّ ترفعها لتطرد بها العصافير إن تجرّأت واقتربت من شرفتها. ساحرة عجوز شرّيرة محتها الأيّام من حكايات الأطفال ونسيتها فوق بيتنا. عاجزة عن الحبّ تتسلّح بمكنسة عاجزة عن الطيران.
قبل أن تنطلق حركة الناس إلى إعمالهم تبدأ العجوز بالرواح والمجيء وهي ترتّب بيتًا لا يزوره أحد وتنظّف أرضًا لم تلوّثها إلّا دعساتها. ولكنّ الأصوات الصادرة عنها اليوم اختلف إيقاعها كأنّ في الأمر جديدًا ما أثار حشريّتي ودفعني لمغادرة دفء الفراش في هذا اليوم الربيعيّ المنعش بحثًا عمّا جعل المرأة تغيّر عاداتها. خرجت إلى الشرفة وإذا بأوراق نبتة الغليسّين (لحلح) تتطاير تحت ضربات قضيب معدنيّ، ينهال بلا كلل أو ملل على الأغصان الطريّة الخضراء المتسلّقة بجمال وأنفة جدران المبنى الخارجيّ. لا تريد المرأة للنبتة ذات العناقيد البنفسجيّة أن تصل إلى شرفتها.
كان الضرب عنيفًا لا رحمة فيه ولا شفقة. حقد لا أحد يعرف كيف يحمله الجسد النحيل المحدودب الظهر يجعل الأوراق ترتعد هلعًا، وتتشتّت بعيدًا عن النبتة المسكينة الممتدّة أمام بيتنا، مانحة إيّاه ظلالًا نديّة وربيعًا بهيجًا وعيونًا لا تشبع من رؤية الجمال. باستثناء نظرات الجارة الجائرة. انتهت حفلة التعذيب وارتاح القضيب المعدنيّ الرفيع بعدما تعبت الذراع المعروقة المترهّلة. قلت في نفسي ستتكرّر هذه الحفلة ما دامت النبتة تريد الحياة والعجوز تكره كلّ ما في الحياة.
جمعت الأوراق الشهيدة والأغصان المبتورة ووضعتها عند جذع النبتة وأنا أعتذر منها متمنّية عليها أن تصبر معي على جيرة نستجير بالله منها.
وكان نهار. وكان ليل.
وإذا بصراخ المرأة يشقّ سكينة العتمة كصوت سكّين غادر غمده وغدر بضحيّته. يا إلهي! ما بها الآن؟ ماذا أصابها في هذا الليل؟ ألا يكفينا جنون النهار؟ ازداد الصراخ عنفًا، فأضيئت المصابيح الكهربائيّة في البيوت المجاورة، وخرج الجميع إلى الشرفات حين سمعوا استغاثة زوج المرأة وهو يطلب من الناس أن يهرعوا إليه. لبّى كثر النداء وهم يتساءلون عمّا يجري في البيت المسكون بأشباح ولا يزوره إنسيّ. وحين وصلوا فوجئوا بأغصان النبتة الخضراء ممتدّة في أرجاء البيت وغصن من أغصانها الخضراء ملتفّ حول عنق المرأة الراقدة في سريرها، يخطف أنفاسها ويمتصّ غضبها، وكلّما كان لون المرأة القاتلة يزداد شحوبًا كانت أوراق النبتة تزهو اخضرارًا وأريج عناقيدها يملأ المكان عطرًا.
حاول الجيران أن ينقذوا المرأة لكنّ الأغصان المتشابكة بسرعة لا تخطر لأحد لم تسمح لهم بالوصول إلى العجوز التي جحظت عيناها ولفظت آخر نفس وهي حانقة على زوجها الذي جعل الناس يوسّخون أرض بيتها النظيف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق