حلم أدونيس
جبيل
زحلة
خيبة أدونيس القديم
ينتهي العام في مكان ما، وينتهي معه شيء ما، وإلاّ فلن تكون البداية بداية، والشابّ الذي يعرف هذه الحقيقة سار نحو الشرق ولم ينتظر نجمة تولد في السماء لترشده إلى الطريق. مشى عكس الريح فوصل إلى حيث الشمس، في حين عبر الآخرون الثلج والصقيع ليصلوا إلى حيث لا ظلّ لهم على الأرض ولا قمر ينير الليل. إلى بلدة على المحيط البارد، توجّه أفراد العائلة اللبنانيّة المشتّتون في مدن العالم المتمدّن. هناك تنتظرهم كبيرةُ العائلة، المرأة المارونيّة التي تقترب من المئة ولا تزال تتابع أخبار لبنان وتحلم بالعودة إليه. ذهب الأولاد والأحفاد ليحتفلوا بعيد الميلاد مع المرأة التي حين هاجرت إلى الغرب نسيت قلبها هنا، وإلى حيث القلب عاد الحفيد المولود من مياه الغربة وهو مؤمن بأنّه يلبّي نداء غامضًا لا يعرف ماذا يريد منه بالتحديد. عاد وحده، حمل زاد الطريق وانطلق صوب الشرق الذي يهرب منه المسيحيّون. في ليلة عيد الميلاد، شرب أفراد العائلة في الغرب الأنخاب وتناولوا الطعام وسمعوا فيروز وانتظروا اتصالاً من الشاب الساهر في بيت الأجداد في لبنان ليطمئنهم إلى أحواله، فحين اتصل به والده قبل أيّام من العيد وقال له: عد إلى البيت فأنت وحيدي واستمراري ورهاني والوضع هناك متأزّم، أجاب الشابّ: "هنا الحياة غريبة والسماء قريبة، أحببت هذا البلد وأريد أن أتصالح معه وأن أعده بك عائدًا مع جدّتي إلى حيث قلبها. أشعر بنبضاته يا أبي هنا في صوت الريح على امتداد السهل ورقص الأشجار عند سفح الجبل". في تلك الليلة سهر الوالد وهو يفكّر في مصير عائلته بعدما اختار ابنه الوحيد مسيرته في الاتجاه المعاكس، ولم تنم الجدّة التي شعرت بالندم لأنّها تركت قلبها في وطن تحجّرت فيه قلوب الناس وقد تجرح برودتُها حفيدَها الغريب عنهم، ولم تنم الأمّ، ابنة الغرب الآمن، وهي تسأل نفسها عن هذا الجنون اللبنانيّ الذي يقود وحيدها إلى وطن لا تعرفه ولا يعنيها أمره ولا تفهم لغته ولا تحبّ أغنياته التي يسمعها زوجها في هدأة الليل حين يجلس وحده في مكتبه.
عاد الشاب الذي اسمه حبيب في المرّة الأولى إلى شاطئ جبيل ليبني مراكب فينيقيّة فسخر الناس من أحلامه ما جعله يرحل غاضبًا ناقمًا على وطن يخجل بتاريخه. وها هو يعود في المرّة الثانية إلى سهل البقاع ليزرع الكروم وهو يسمع تساؤلات الناس عن رغبته في صنع النبيذ في وطن يجترح أبناؤه كلّ يوم معجزة تحويل الخمرة إلى دم، فهل ييأس ويرحل من جديد، أم يكون أوّل الراجعين ليعدّ الطريق لأجيال من اللبنانيّين ولدت في مغرب الأرض وتحلم بالعودة إلى مشرقها؟
حين سمعت للمرّة الأولى حكاية حبيب مع المراكب الفينيقيّة قلت: هو نزق الشباب وترف أجنبيّ ضجر من بلاد الغرب. ولكنّ أصداء خيبته جعلتني أكتب في هذه الصفحة بالذات عن أحلامه التي تحطّمت على صخور لبنان. وحين سمعت عن رغبته في تمضية العيد في لبنان بينما تجتمع عائلته في المهجر، قلت: هو تهوّر الشباب وخلاف أجيال تنظر إلى الأمور من جهتين مختلفتين. ولكنّ الأخبار عنه تقول بأنّه مرتاح حيث هو ومقتنع بأنّ مجيئه إلى الشرق هو الخطوة الأولى على طريق مستقبله. ثمّ قيل لي إنّه ترك وظيفته وبدأ يفكّر بشراء قطعة أرض في لبنان وتأسيس عمل، فقلت: هو جنون المغامرين وتحدّي الابن لخيارات أبيه، وإذا بالمعلومات تؤكّد أنّ هذا الشاب ماض في ترسيخ خطواته في أرض لم تكن إلى أشهر مضت سوى كلمات تدور بين والده وجدّته لكنها كانت كافية لتعيد اللون إلى وجهيهما وتنشر الصخب والحياة في بيت تقيم فيه السكينة وتحاصره الثلوج. فقرّر أن يعود إلى مصدر ذلك اللون ورحم تلك الحياة.
لا أعرف ما هو رأي حبيب بأغنية فيروز "بيتي الزغير بكندا"، وفيها تصوير لما صار اللبنانيّ يبحث عنه بعيدًا عن حدود الوطن ولو كان ذلك في صقيع كندا أو حرّ أوستراليا أو ضباب لندن أو مجاهل أفريقيا أو حتّى في جليد ألاسكا، كما فيها تأكيد على أنّ البيت الآمن الذي وصفه الأخوان رحباني في أعمالهما (البيت = الوطن) لم يعد هنا بل في الخارج. هو يكتب الآن أغنيته الخاصّة عن بيته البقاعيّ الصغير الذي يدفئه قلب جدّته المتروك هنا ذخيرة، فهل يتاح له أن يصنع نبيذ الخلاص من كروم السهل وهل يُترك له الوقت لتعتيق خمرة أحلامه في أقبية عمره الآتي، أم أنّ نيران الحقد ستحرق الغرسات اليانعة وأعاصيرَ الغضب ستحطّم جرار العرس فيخسر أدونيس معركته الجديدة؟
عاد الشاب الذي اسمه حبيب في المرّة الأولى إلى شاطئ جبيل ليبني مراكب فينيقيّة فسخر الناس من أحلامه ما جعله يرحل غاضبًا ناقمًا على وطن يخجل بتاريخه. وها هو يعود في المرّة الثانية إلى سهل البقاع ليزرع الكروم وهو يسمع تساؤلات الناس عن رغبته في صنع النبيذ في وطن يجترح أبناؤه كلّ يوم معجزة تحويل الخمرة إلى دم، فهل ييأس ويرحل من جديد، أم يكون أوّل الراجعين ليعدّ الطريق لأجيال من اللبنانيّين ولدت في مغرب الأرض وتحلم بالعودة إلى مشرقها؟
حين سمعت للمرّة الأولى حكاية حبيب مع المراكب الفينيقيّة قلت: هو نزق الشباب وترف أجنبيّ ضجر من بلاد الغرب. ولكنّ أصداء خيبته جعلتني أكتب في هذه الصفحة بالذات عن أحلامه التي تحطّمت على صخور لبنان. وحين سمعت عن رغبته في تمضية العيد في لبنان بينما تجتمع عائلته في المهجر، قلت: هو تهوّر الشباب وخلاف أجيال تنظر إلى الأمور من جهتين مختلفتين. ولكنّ الأخبار عنه تقول بأنّه مرتاح حيث هو ومقتنع بأنّ مجيئه إلى الشرق هو الخطوة الأولى على طريق مستقبله. ثمّ قيل لي إنّه ترك وظيفته وبدأ يفكّر بشراء قطعة أرض في لبنان وتأسيس عمل، فقلت: هو جنون المغامرين وتحدّي الابن لخيارات أبيه، وإذا بالمعلومات تؤكّد أنّ هذا الشاب ماض في ترسيخ خطواته في أرض لم تكن إلى أشهر مضت سوى كلمات تدور بين والده وجدّته لكنها كانت كافية لتعيد اللون إلى وجهيهما وتنشر الصخب والحياة في بيت تقيم فيه السكينة وتحاصره الثلوج. فقرّر أن يعود إلى مصدر ذلك اللون ورحم تلك الحياة.
لا أعرف ما هو رأي حبيب بأغنية فيروز "بيتي الزغير بكندا"، وفيها تصوير لما صار اللبنانيّ يبحث عنه بعيدًا عن حدود الوطن ولو كان ذلك في صقيع كندا أو حرّ أوستراليا أو ضباب لندن أو مجاهل أفريقيا أو حتّى في جليد ألاسكا، كما فيها تأكيد على أنّ البيت الآمن الذي وصفه الأخوان رحباني في أعمالهما (البيت = الوطن) لم يعد هنا بل في الخارج. هو يكتب الآن أغنيته الخاصّة عن بيته البقاعيّ الصغير الذي يدفئه قلب جدّته المتروك هنا ذخيرة، فهل يتاح له أن يصنع نبيذ الخلاص من كروم السهل وهل يُترك له الوقت لتعتيق خمرة أحلامه في أقبية عمره الآتي، أم أنّ نيران الحقد ستحرق الغرسات اليانعة وأعاصيرَ الغضب ستحطّم جرار العرس فيخسر أدونيس معركته الجديدة؟
***
جريدة النهار - الثلاثاء 28 كانون الأوّل 2010
هناك 5 تعليقات:
bonjour MARIE
ما أجمل تراب لبناننا... وما أجمل العيش تحت سمائه و استذكار أخبار جدودنا ولكن يا ماري لبنان لم يعد لبناننا إنه قطعة جبنة يتناتشها الجميع ... من جهة سياسيونا والرأسماليون و من جهة أخرى بلدان الشرق و ألغرب والمحبون كثر و نحن عاجزون , ....إذا كان حبيب من ذوي المال و مقتدر , لما لا... فالعيش في لبنانه سيكون مريحا ً...و إلا أنصحه بالعودة من حيث أتى ...ما متت ما شفت مين مات ؟ ليس بحب الوطن فقط يحيى الإنسان...لا فرص عمل ... غلى و كوى ولا أحد يبالي أو يراقب ...كانت أيام كنا نقول :زيوان بلدك ولا قمح الغربة ... تلك الأيام , كانت أيام خير و بركة ....و عذرا ً ...لقد أطلت الكلام ...mais vraiment je suis révoltée !!!et je sais Marie , que tu es une personne qui sait bien écouter , merci
استخدامك الأصوات في السرد بديع.
لبنان أرض الروائع والعجائب ومنهل المعرفة والمحبة، ومعلم محبة الأوطان.
إنّ لسعيد عقل ، فيلسوف العصر ومجنون لبنان ، أختاً ؛ فاسمحي لي أسميك (أخت عقل)..
وما خاب مَن كانت بقاياه مثلكم
شبابٌ تسامى للعُلا وكهولُ
مش عارف اقول لحضرتك أيه الصراحة
غير أنى قلبى وجعنى
صدقينى مش ترف أجنبى أبداً
مش عارف بس أنا مصدقه
عارفه حضرتك ليه علشان انا بحب لبنان يمكن قلت لحضرتك دة قبل كدة بس يمكن انا مصدقه علشان انا اللى بعيد عن لبنان و مفيش ليا بيها صلة مباشرة و بحبها كدة
ما بالك اللى هوابنها بس متغرب عنها
و حضرتك لولا ان انتِ مصدقاه و عارفه ان دة مش ترف
مكونتيش كتبتى عنه
على قد ألم المقال على قد ما فيه من حنين و حب
عارفة حضرتك انا بشتغل فى شرم الشيخ
و دى مدينة متعبة نفسية بجد للى مش على هواه المُعاملات بين الناس مش الأجانب قصدى الناس مع بعض
اول ما جيت بجد اللى كان مهون عليا الدنيا
المطعم اللبنانى (:
علشان فيروز بقى و العلم اللبنانى و كدة
بالرغم انى ممكن اشغل شريط فيروز عندى فى المحل
بس بجد شعور جميل جداً
لما تحسى انى فى لبنانى جنبك (:
ارجو انى مكنش دوشتك و صدعتك من الرغى بتاهى دة (:
أسف
أولغا
لعلّني أصغي أكثر من اللازم، وأرى أكثر من المطلوب/ وهذه مأساتي/ وأنت أدرى. معك حقّ / قلبي على هذا الشابّ الذي لا يعرف ما ينتظره/ غير أنّني لسبب ما فخورة به وشاكرة له لأنّه منحني بعض الأمل/ لكن متى يخيب أمله هو هذا جوهر المسألة
وادي المعرفة
أخو الجهالة في الشقاوة ينعم
أليس ذلك "أريح" من أكون
"أخت عقل"
وهو تعبير يداعب غروري
نشرته لأكافئ نفسي وإن كان كثيرون "سينشرون عرضي" لأنّني سمحت لنفسي بالحلم بذلك ولو للحظات
ولكن من أين لي لغة سعيد عقل وعلمه ومعرفته وخبرته وموهبته وثقافته
قد أشبهه في محبّة هذا الوطن وإن كان يفوقنا كلّنا في ذلك
رامي
لا تعتذر عن الكتابة أليست هي لغة تواصلنا الحضاريّة في عالم لم يعد يجيد سوى لغة الانفعال والغضب والحقد؟
آمل أن تسمح لك ظروف لبنان بأن تزوره
إن (عقل) مثالنا جميعاً في محبة الوطن..
أراك تحدّين في قلبك لا في عقلك يا ماري ، وفي ذلك بركة.
حب الوطن إيمان.
يقول شاعرنا العامي:
مادام للحب في قلبك يا خل أنغام موزونة
دعهم ودع ما يقولونه
إرسال تعليق