فاسيلي كادنسكي
لو كان يحقّ للشخصيّة أن تحاكم الكاتب لكانت شقيقة الأديب توفيق يوسف عوّاد أوّل من رفع قضيّة تطالب فيها بإعادتها إلى الحياة. ففي حديث مطوّل مع متري سليم بولس نشرته "النهار" في 16 نيسان 1999 عرض عوّاد لطريقة تعامله مع شخصيّاته، موضحًا العلاقة بين الواقع والمتخيّل الذي فرضته اللعبة الفنيّة، وأشار إلى قصّة "الجرذون الشتويّ" من مجموعته القصصيّة "الصبيّ الأعرج" فقال إنّ معلّم العمار هو والده، وأصل القصّة مستوحى من انتقال عائلة الكاتب من بحرصاف إلى برمّانا أثناء الحرب، ولأنّ الكاتب أراد أن يخلق فجيعة في نهاية القصّة جعل أخته تموت عند الباب. ويضيف عوّاد أنّ أخته التي لم تمت عند الباب في تلك المجاعة لم تجرؤ على معاتبته على النهاية المفجعة التي رسمها لها.
وفي المجموعة القصصيّة نفسها يقول عوّاد إنّه صوّر نفسه في قصّة "شهوة الدم"، فهو زعيم العصابة التي تربط الكلاب وتعذّبها. وفي أقصوصة "المقبرة المدنّسة" الكثير من الواقع والكثير من الخيال. و"الرسائل المحروقة" هي قصّته مع زوجته، وقصّة "الهاربة" روتها له صديقة صاحبة مدرسة، والحادثة وقعت مع أخيها. وفي "حكاية جدّي" جعل جدّه يفقد نظره، والقصّة حقيقيّة في معظمها. وأقصوصة "الشير" من مجموعة "مطار الصقيع" كتبها عوّاد إثر أزمة حادّة بينه وبين زوجته، وما عاناه نفسيًّا بسبب ذلك حوّله حدثًا في الأقصوصة وجعل البطل ينتحر لأنّ ذلك ما شعر به فعلاً. هذا المزج بين الواقع المعاش والفنيّ المتخيّل هو ما جعل الدكتور ميشال جحا يقول في "لقاء الجمعة الثقافيّ" عن أدب توفيق يوسف عوّاد "إنّ عوّاد يعترف بأنّ ما يقصّه ما هو إلاّ حوادث حقيقيّة وأقوال صحيحة. ولكنّها قسمان: التأريخ والأدب. أمّا ما كان منها تأريخًا فهو حقيقة كلّ الحقيقة، وأمّا ما كان منها أدبًا، نثرًا وشعرًا، فهو حقيقة الكاتب التي يتجاوز بها الواقع إلى الفنّ" (النهار – 9/6/ 1989)
وليس بعيدًا عن العالم الروائيّ، نلاحظ كيف أنّ الفيلم السينمائيّ المستوحى من قصّة واقعية يشدّ اهتمامنا فلا تفارق أعيننا الشاشة قبل أن نقرأ الأسطر التي تشير إلى ما جرى لاحقًا، أي بعد انتهاء القصّة المصوّرة. ولكن في المقابل لن يرغب أحد منّا في رؤية حياته مكتوبة أو مصوّرة، لأنّنا نستمتع بمراقبة حيوات الآخرين ونرفض أن نكون نحن تحت مجهر نظراتهم. ولا شكّ في أنّ الكاميرا باتت اليوم عنصرًا آخر دخيلاً على ما يفترض أنّه لا يستحقّ المراقبة. وغالبًا ما نشاهد على التلفزيون مشاهد متنوّعة تنتقل فيها الكاميرا بين المسابح والملاهي والمراقص والشوارع من غير أن يسأل أحد روّاد هذه الأمكنة إن كانوا يريدون أن يظهروا على الشاشة.
في الحقيقة لن يستأذن أحد أحدًا. وحيواتنا التي صارت اليوم منتهكة أكثر من أيّ وقت مضى لن تسلم من عين تراقب وتصوّر وتكتب أو أذن تستمع وتسجّل. وكلّ منّا كان الجاسوس الذي حوّل الآخرين مادّة حديثه أو كتابته أو تقريره. لذا لن تستطيع أيّة شخصيّة روائيّة (أو سينمائيّة) أن تقاضي كاتبها لأنّها منذ لحظة مجيئها إلى الحياة تحوّلت طريدة لن تنجو طويلاً من مطارديها.
في حديث أعطاه لأوغاريت يونان وأنطوان أبو زيد من مجلّة "المنبر"، أوضح توفيق يوسف عوّاد هذه الإشكاليّة التي تحكم علاقة الكاتب بشخصيّاته فقال: "أنا أعيش في مجتمعي، قدماي راسختان في الأرض. وأبطالي كلّهم عاشوا ويعيشون حواليّ. قد ينزع الفضوليّون طرف ثوب لهم ويدلّون بأصبعهم قائلين: أشخاص حقيقيّون أبدل الموقف بعض ملامحهم تمويهًا وتضليلاً، وقد يهتف آخرون: بل هم خرافيّون، لا يمكن هذا أو ذاك أن يكون في الواقع. كلاهما على خطأ وكلاهما على حقّ. فمن أين آخذ أبطالي إلاّ من الواقع! ولكنّهم ليسوا إيّاهم إلاّ بالأحجام التي أعطيهم إيّاها، والأبعاد التي أطلقها فيهم. الفنّ غير الواقع. إنّه الواقع في الخيال. وأهميّة أبطالي ليست بالأحداث التي أزّجهم فيها فقط، بل خصوصًا في ما أضعه على شفافهم من أشواق وأسئلة، هي في الغالب أشواقي وأسئلتي. وأنا أعتقد أنّهم كلّهم، على اختلافهم واختلافي عنهم، أنّهم كلّهم أنا. وأنا الضدّ وضدّه مجتمعان، ولست واحدًا منهم على التعيين: أنا الصبيّ الأعرج مقهورًا وأنا عمّه ابراهيم جلاّدًا".
لا أعرف كيف يكون شعور من يقلّب الصفحات ويكتشف أنّه، ومن دون أن يسأله أحد، بطل قصّة، أو موضوع وصف وتحليل، أو أنّ ما قاله البارحة حول فنجان قهوة صار عنوانًا لقصيدة أو مقالة. ولكن أليس هذا حال شخصيّات كثيرة علقت في ذاكرتنا؟ وإذا كانت الشخصيّات الجميلة والمثيرة رضيت بالتشبيب بها أو مدحها، فهل يُعقل أن ترضى شخصيّات قبيحة وجبانة وبخيلة بالبقاء على قيد الحياة ألوف السنين ليسخر منها الناس؟
وفي المجموعة القصصيّة نفسها يقول عوّاد إنّه صوّر نفسه في قصّة "شهوة الدم"، فهو زعيم العصابة التي تربط الكلاب وتعذّبها. وفي أقصوصة "المقبرة المدنّسة" الكثير من الواقع والكثير من الخيال. و"الرسائل المحروقة" هي قصّته مع زوجته، وقصّة "الهاربة" روتها له صديقة صاحبة مدرسة، والحادثة وقعت مع أخيها. وفي "حكاية جدّي" جعل جدّه يفقد نظره، والقصّة حقيقيّة في معظمها. وأقصوصة "الشير" من مجموعة "مطار الصقيع" كتبها عوّاد إثر أزمة حادّة بينه وبين زوجته، وما عاناه نفسيًّا بسبب ذلك حوّله حدثًا في الأقصوصة وجعل البطل ينتحر لأنّ ذلك ما شعر به فعلاً. هذا المزج بين الواقع المعاش والفنيّ المتخيّل هو ما جعل الدكتور ميشال جحا يقول في "لقاء الجمعة الثقافيّ" عن أدب توفيق يوسف عوّاد "إنّ عوّاد يعترف بأنّ ما يقصّه ما هو إلاّ حوادث حقيقيّة وأقوال صحيحة. ولكنّها قسمان: التأريخ والأدب. أمّا ما كان منها تأريخًا فهو حقيقة كلّ الحقيقة، وأمّا ما كان منها أدبًا، نثرًا وشعرًا، فهو حقيقة الكاتب التي يتجاوز بها الواقع إلى الفنّ" (النهار – 9/6/ 1989)
وليس بعيدًا عن العالم الروائيّ، نلاحظ كيف أنّ الفيلم السينمائيّ المستوحى من قصّة واقعية يشدّ اهتمامنا فلا تفارق أعيننا الشاشة قبل أن نقرأ الأسطر التي تشير إلى ما جرى لاحقًا، أي بعد انتهاء القصّة المصوّرة. ولكن في المقابل لن يرغب أحد منّا في رؤية حياته مكتوبة أو مصوّرة، لأنّنا نستمتع بمراقبة حيوات الآخرين ونرفض أن نكون نحن تحت مجهر نظراتهم. ولا شكّ في أنّ الكاميرا باتت اليوم عنصرًا آخر دخيلاً على ما يفترض أنّه لا يستحقّ المراقبة. وغالبًا ما نشاهد على التلفزيون مشاهد متنوّعة تنتقل فيها الكاميرا بين المسابح والملاهي والمراقص والشوارع من غير أن يسأل أحد روّاد هذه الأمكنة إن كانوا يريدون أن يظهروا على الشاشة.
في الحقيقة لن يستأذن أحد أحدًا. وحيواتنا التي صارت اليوم منتهكة أكثر من أيّ وقت مضى لن تسلم من عين تراقب وتصوّر وتكتب أو أذن تستمع وتسجّل. وكلّ منّا كان الجاسوس الذي حوّل الآخرين مادّة حديثه أو كتابته أو تقريره. لذا لن تستطيع أيّة شخصيّة روائيّة (أو سينمائيّة) أن تقاضي كاتبها لأنّها منذ لحظة مجيئها إلى الحياة تحوّلت طريدة لن تنجو طويلاً من مطارديها.
في حديث أعطاه لأوغاريت يونان وأنطوان أبو زيد من مجلّة "المنبر"، أوضح توفيق يوسف عوّاد هذه الإشكاليّة التي تحكم علاقة الكاتب بشخصيّاته فقال: "أنا أعيش في مجتمعي، قدماي راسختان في الأرض. وأبطالي كلّهم عاشوا ويعيشون حواليّ. قد ينزع الفضوليّون طرف ثوب لهم ويدلّون بأصبعهم قائلين: أشخاص حقيقيّون أبدل الموقف بعض ملامحهم تمويهًا وتضليلاً، وقد يهتف آخرون: بل هم خرافيّون، لا يمكن هذا أو ذاك أن يكون في الواقع. كلاهما على خطأ وكلاهما على حقّ. فمن أين آخذ أبطالي إلاّ من الواقع! ولكنّهم ليسوا إيّاهم إلاّ بالأحجام التي أعطيهم إيّاها، والأبعاد التي أطلقها فيهم. الفنّ غير الواقع. إنّه الواقع في الخيال. وأهميّة أبطالي ليست بالأحداث التي أزّجهم فيها فقط، بل خصوصًا في ما أضعه على شفافهم من أشواق وأسئلة، هي في الغالب أشواقي وأسئلتي. وأنا أعتقد أنّهم كلّهم، على اختلافهم واختلافي عنهم، أنّهم كلّهم أنا. وأنا الضدّ وضدّه مجتمعان، ولست واحدًا منهم على التعيين: أنا الصبيّ الأعرج مقهورًا وأنا عمّه ابراهيم جلاّدًا".
لا أعرف كيف يكون شعور من يقلّب الصفحات ويكتشف أنّه، ومن دون أن يسأله أحد، بطل قصّة، أو موضوع وصف وتحليل، أو أنّ ما قاله البارحة حول فنجان قهوة صار عنوانًا لقصيدة أو مقالة. ولكن أليس هذا حال شخصيّات كثيرة علقت في ذاكرتنا؟ وإذا كانت الشخصيّات الجميلة والمثيرة رضيت بالتشبيب بها أو مدحها، فهل يُعقل أن ترضى شخصيّات قبيحة وجبانة وبخيلة بالبقاء على قيد الحياة ألوف السنين ليسخر منها الناس؟
قد ترضى الشخصيّات الروائيّة عن مصائرها متى علمت أنّ الكاتب لن يجرؤ على مواجهة نفسه إلاّ مسلّحًا بها.
هناك 4 تعليقات:
هذا حقيقى
ما نكتبه هو تجاربنا مع الأخرين
حتى و أن لم تكن تجارب مباشرة
دائماً و أنا صغير كُنت أتخيل أن الحياة كفيلم و الكاميرا مُسلطة على أنا فقط
(:
كل سنة و حضرتك طيبة
أسف للمتابعة المتقطعة
أحاول العودة
كتب مارون عبود في نقد "عاشقة الليل" نازك الملائكة ما نصه:
" هذه خنساء جديدة ولكنها مثقفة...ولو يصح لي أن أتمثل بالنابغة لقلت لنازك الملائكة: اذهبي فأنت أشعر من كل ذات ثديين .."
من مالكم يُهدى لكم.
كل سنة وانت بخير.
احسنتى
رامي/ أهلاً بك وشكرًا على وقتك/ أتمنّى لك عيد ميلاد سعيدًا وسنة جديدة ملؤها السلام والأمان وأن تتمتّع فيها بالصحّة والحبّ والطمأنينة.
وادي المعرفة/ لك تحيّاتي وكلّ التمنيّات بسنة جديدة كلّها خير وبركة
روني/ أهلاً بك وشكرًا لك وكلّ عام وأنت بخير
إرسال تعليق