بيكاسو
فوضاه منظّمة
الجار قبل الدار، ويا جار الرضا، وجارك القريب ولاّ خيّك البعيد، والجار جار ولو جار، كلّها شعارات تسقط في الصيف، ويصير جارك ساكنًا بنصّ دارك، وجار الإزعاج والصخب والسهرات حتى الفجر، وقريباً منك حتّى أنّك ما أن تفتح عينيك مع إطلالة الصباح حتى تراه في ملابسه الداخليّة على الشرفة يتمطّى ويعرض عليك عضلاته. تحاول أن تغمض عينيك لتستعيد إغفاءة هانئة فيعتدي عليك من أذنيك بصوته وهو يعاتبك لأنّك ما زلت نائمًا ويأمرك بأن تضع الركوة على النار لأنّو صار الضهر، ثمّ ينطلق مغنيًّا وهو يحمل خرطوم المياه ليروي نباتات يفاخر بها: وينك يا جار شرّفنا عالصبحيّة، القهوة عالنار عم بتساويها هيي.
وهيي كانت. فتنطلق منك شتائم لم تكن تعرف أنّك تعرفها، وتلعن الساعة التي أتى فيها الصيف فاتحًا الشبابيك والأبواب، ناشراً الناس على السطوح والشرفات، موزّعًا الصبايا والشباب على الطرقات. وتندب حظّك قائلاً: رزق الله على الشتي والمدارس، حين كان الناس مضبوبين في بيوتهم، كافين الآخرين شرورهم وإزعاجهم، يختبئون من البرد والصقيع، وينامون باكرًا كي يذهبوا باكرًا إلى الأعمال والمدارس.
قل لي من هم جيرانك أخبرك كيف هي حياتك!
فإن كان جارك القريب يهوى كرة القدم فأنت الآن في جحيم من المباريات تجعل بيتك ملعبًا لا تغيب عنه الكرة.
وإن كانت جارتك التي تقيم فوق منزلك مهووسة بالنظافة فأنت محاط بغبار السجّاد ومغمور بفيضان المياه التي تنزل عليك من النوافذ والشرفات التي تُغسل كلّ يوم.
وإن كان قربك ورشة بناء فأنت بلا شكّ تحاول ليلاً أن تسرق لحظات للنوم بين برنامج تركي وآخر سوريّ، وتصحو صباحًا على قرقعة الآلات وشجار العمّال بلهجات مختلفة غامضة تحرّك فضولك العلميّ وميلك إلى التحليل فترغب في أن تفهم ماذا يقال. ثمّ تلعن نفسك لأنّك استسلمت لواقع الحال ونسيت أنّك لم تشبع نومًا يكفيك طوال النهار.
هذا كلّه سهل أمام سهرتَي الجمعة والسبت حين يحتفل جيرانك على التوالي بالأعياد والمناسبات التالية/ طبعًا ما عدا الحالات الطارئة: الأعراس، ذكرى الزواج، أعياد ميلاد الأولاد، أوّل قربانة، المعموديّة، عيد مار الياس، عيد الربّ، عيد السيّدة، عيد الصليب، عودة مغترب حبيب، النجاح في البريفيه، الحصول على عمل، الخروج من المستشفى، طرش البيت ودهان الأبواب والشبابيك، تجديد أثاث البيت، تغيير الديكور، آخر حلقة من البرنامج المشهور، الطلعة على الجبل، العودة من الجبل، السفر في رحلة استجمام، العودة من رحلة الاستجمام...كلّها مناسبات تستدعي الاحتفال وإطلاق المفرقعات الناريّة وبثّ الموسيقى الصاخبة، وإقامة الولائم ونصب معدّات الأراكيل. وأين يتمّ ذلك؟ على الشرفات أو في الحديقة، حيث يحتلّ التلفزيون مكانه مقتحمًا بأضوائه عتمة غرفتك، وبصوته العالي سكون ليلك، فارضًا عليك برامج تعذيب وتنكيل يستخدمها الجلاّدون في السجون العربيّة. وكأن لا يكفي كل ذلك، فتصلك رنّات الهواتف الخلويّة، ولكلّ منها صوت ونغمة وأغنية، وأصوات المغنيّات والمغنّين من أحدث الآلات، ولكلّ مراهق موسيقاه وأغنياته يسمعها ويسمعنا إيّاها من هاتفه أو مذياعه، ولكلّ صغير لعبة صاخبة مزعجة أو رغبة جامحة إن لم تلبَّ على عجل انفجر باكيًا (تخيّل أن يهوى ابن خمسة أعوام قرع الأجراس على أبواب الجيران طيلة اليوم).
والأنكى من ذلك أن تحاول بلياقة وتهذيب أن تلفت انتباه جيرانك إلى حاجتك إلى السكينة لتعمل أو تنام، إذ ستنهمر عليك أنواع من العبارات تشبه العيارات الناريّة تعيدك قزمًا في أرض العمالقة: ولو يا جار يللي ما بيعشق وبيسهر لشو حياتو؟/ ولو يا جار ضاقت بعينك إنّو نحنا مبسوطين/ ولو يا جار سكّر الأبواب والشبابيك وأدر المكيّف/ ولو جار يللي ما بيشعر مع فرح الناس ما بيكون من الناس/ ولو يا جار العمر بيخلص والشغل ما بيخلص/ ولو يا جار بتحطّ عقلك بعقل الولاد/ هذا فضلاً عن نظرات الغضب وكلمات السخرية من أولاد الجيران الذين تعلّموا في المدارس كلّ شيء إلاّ حسن التصرّف.
هل أنت محاط بمثل ذلك؟ أو بنصفه؟ أو بربعه؟ أنت إذًا على أتمّ الاستعداد لانهيار عصبيّ يجعلك تفقد آخر خلية سليمة من عقلك، وليس بمستبعد أن ترتكب حماقة تسكت فيها هذا العالم المجنون، وغالبًا ما تكون أنت ضحيّتها، لأنّك في النهاية تبحث عن الهدوء والصمت والراحة والنوم، ولو كلّفك ذلك معاداة مجتمع كامل.
جريدة النهار - الثلثاء 6 حزيران 2010