نماذج من الحياة الثقافيّة في الريف اللبنانيّ الساحليّ
تجربة رائدة انطلقت حرّة واللغة جواز سفر
بين البحر والجبل ثمّ مكان تشرف منه على الأزرق الواسع من دون أن تطالك رطوبة الهواء أو تعلق بشفتيك ملوحة دبقة. أعلى من مستوى البحر، وقبل أن تصل إلى قمم الجبال، ثمّ مكان انطلق منه روّاد حملوا في أفكارهم وكلامهم سعة البحر وعمقه وامتداده، وسعوا عبر الكلمة للوصول إلى قمم تعوّض عن تواضع مناطق سكنهم. من هذا الريف الساحليّ انطلقت تجربة رائدة لم يتّفق أصحابها على إطلاقها ولم يخطّطوا لها بل ظهرت كما تظهر زهور الربيع، في كثرة وهدوء.
لا شكّ في أنّ رصد هذه الظاهرة، وملاحقة أسبابها، وتسجيل نتائجها، عمل جدّيّ دقيق. لكنّ الإشارة إليها هنا تهدف إلى لفت الانتباه إلى لغة شعريّة شعبيّة ظهرت في الزجل والشعر العاميّ، وصولاً إلى الأغنية اللبنانيّة، وهي اللغة التي نقلت أحاسيس الناس ورؤاهم وصوّرت الطبيعة والتقاليد والأعياد.
يتميّز الريف الساحليّ بطبيعة خضراء تغذّيه مياه جوفيّة وأنهار غزيرة تسقي الأشجار والمزروعات في طريقها إلى البحر. وبما أنّها منطقة زراعيّة، كان على سكّانها أن يضبطوا إيقاع أيّامهم بتغيّرات الطقس وانتظار مواسم الزرع والريّ والقطاف والحصاد، علمًا أنّ تنوّع المواسم الزراعيّة وغناها ما كانا كافيين ليستسلم ساكنو هذه البقعة الجغرافيّة لمتعة الاكتفاء والبحبوحة، فالأرض نفسها علّمتهم الحذر والتنبّه، إنّما من غير تشاؤم أو قلق. لذا كان عليهم أن يجدوا بعض الحرف أو الوظائف البسيطة يؤمّنون بواسطتها حاجاتهم الضروريّة إن رغبت الأرض في حرمانهم من بعض خيراتها. هذا النظام الحياتيّ أتاح لأبناء المنطقة الاحتكاك بالأرض والاستمتاع بفصول الطبيعة (وكانت آنذاك معتدلة في توزيع بردها وحرّها بلا تطرّف أو خداع، فالربيع كان ربيعًا والشتاء شتاء)، والتزوّد من ناحية ثانية ما تقدّمه المدينة من علم وانفتاح، خاصّة أنّ أهمّ المدارس الوطنيّة والإرساليّات الأجنبيّة توزّعت على طول هذا الريف الساحليّ الأخضر المستسلم لزرقتين: زرقة السماء وزرقة البحر.
وهكذا، كان هناك وقت للاحتفالات ومآدب الطعام والنزهات في البقاع الخضراء والسهرات تحت الدوالي والعرائش أو حول مواقد النار، وكانت الحكايات والأغنيات الشعبيّة أو النوادر والطرائف، أو الأحجيات والحزازير، وأخبار المهجر والغياب، كلّها فاكهة حلال يأكل منها الرجال والنساء، الشيوخ والأطفال. وها هم الفنّانون أنفسهم حين يتحدّثون عن طفولتهم في هذه البلدات يشعروننا بأنّ عالمهم ذاك كان في إطاره الطبيعيّ أشبه بالجنّة المفقودة تحنو عليه الجدّات اللواتي يحسنّ سرد القصص. بيد أنّّه كان من الناحية الاجتماعيّة على النقيض تمامًا.
حين اللغة جواز مرور
كتب على أبناء هذه المنطقة أن يكونوا على قاب قوسين من كلّ ما حولهم من غير أن ينغمسوا في ما حولهم. صحيح أنّ المدارس كانت قائمة بينهم تلقي بظلال قبابها وأسوارها على بيوتهم وأراضيهم، إنّما لم يكن متوقّعًا أن يدخل أولاد صغار المزارعين والحرفيّين، إلاّ في ما ندر، إلى تلك المؤسّسات التربويّة التي خرّجت الأطباء والمهندسين والمحامين والقضاة وبعض السياسيّين من أبناء الطبقة الأريستوقراطيّة. لذا بقيت الدراسة مؤمّنة لأولاد الطبقة الوسطى في مدارس صغيرة ومتواضعة، في حين بقي طموحهم مشرئبًّا يسعى للدخول إلى حرم المدارس الكبيرة، فما دخلوها إلاّ متأخّرين وذلك عبر قصائدهم وأغنياتهم ومؤلّفاتهم التي صارت واجبًا مدرسيًّا مفروضًا على أبناء النخبة الماليّة والاجتماعيّة.
صحيح أنّ البحر كان يمتدّ تحت أنظارهم، يحلمون بالسفر عبره إلى أنحاء العالم بحثًا عن الثروة والجاه على عادة اللبنانيّين الطموحين، ولكنّ اللغة التي بدأوا يتذوّقون مجدها وغناها وجمالها أعطتهم الانطلاق وأمّنت لهم أجنحة سافروا بواسطتها إلى أكثر من قارة وحلّقوا فوق أكثر من محيط.
والصوت الذي لم يجد مكانه في عالم المدرسة البعيد المنال، انطلق من الأماكن الدينيّة (الكنيسة غالبًا) ليطلّ بعد ذلك من فوق المسارح والمنابر حاملاً الكلمات التي ضاقت بها الصدور. فكانت أصوات المغنّين والمغنّيات المنطلقة من قرى الريف الساحليّ وبلداته تجمع في نبراتها وأوتارها عنفوان الجبل الذي تستظلّه وامتداد البحر الذي تشرف عليه وحيويّة الاخضرار الذي تسبح في تموّجاته.
كانت الكلمة، في الدرجة الأولى إذًا، بطاقة خروج من عالم ضيّق يطلّ على الدنيا كمتفرّج متلقٍّ لا يفعل بل يخزّن انفعالاته منتظرًا الوقت الملائم لإطلاقها، فكانت حصّة هذا الريف الساحليّ الحصّة الكبرى من مبدعي هذا البلد كلمةً ولحنًا وفكرًا. والكلمة نفسها هي التي وصفت الطبيعة وعبّرت عن الواقع السياسيّ و"هوبرت" أمام المواكب الانتخابيّة وناحت في المآتم وزغردت في الأعراس. ولن يغيب عن البال أنّ هذه المنطقة شهدت في كثير من بلداتها معارك عسكريّة وانتخابيّة على مرّ أعوام طويلة قبل الاستقلال وبعده، بل من فترة ما قبل الانتداب، وسجلّت فيها مواقف وطنيّة لا تزال ذاكرة التاريخ اللبنانيّ تستعيدها في المناسبات: فبعبدا مثلاً كانت مركز المتصرفيّة قبل أن تكون مقرًّا لرئاسة الجمهوريّة اللبنانيّة، وإنطلياس كانت مهدًا للعاميّات قبل أن تكون بلدة العائلة الرحبانيّة، وفي بشامون جرت "معركة" الاستقلال، بعدما انطلقت من الشيّاح مع الصحافيّ ( والنائب والوزير) ميشال زكّور مؤسّس جريدة "المعرض". ولم يكن ممكنًا أن تمرّ تلك الأزمات الوطنيّة من دون أن تترك أثرها في اللغة التي تمظهرت آنذاك في الزجل والأغنية والمقالة الصحافيّة، قبل ظهور وسائل الإعلام المرئيّة. ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ الزجل يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالحريّة، معلنًا إصراره على التفلّت من قيود اللغة العربيّة الفصيحة وشروط موسيقاها وقواعدها، إلى كونه وسيلة التعبير العفويّة عن الرغبة في التميّز في الهويّة الحضاريّة.
الشعر يزنّر بيروت
قد يبدو صعبًا تحديد هويّات بلدات الريف الساحليّ الذي نتحدّث عنه. فالارتفاع عن سطح البحر مؤشّر لافت، ولكنّنا نقع أحيانًا على منطقة ساحليّة جغرافيًّا إنّما تشبه في طبيعتها ومسارها التاريخيّ قرى أكثر منها ارتفاعًا، كبلدة برج البراجنة، ومنها على سبيل المثال الصحافيّ رياض حنين وأحمد السبع صاحب جريدة "الهدى". ويمكننا كذلك الحديث عن منطقة تعلو إلى ما فوق خمسمئة متر وتبقى كذلك صالحة لاعتبارها معنيّة بالبحث، كبلدة شملان التي ترتفع عن البحر سبعمئة متر، وهي مسقط رأس المؤرّخ فيليب حتّي. وكذلك يمكن حصر الحديث ببلدات قريبة من بيروت، لكن ذلك لا يعني أنّ بلدات أخرى بعيدة عن العاصمة لم تعرف حركة فكريّة أو ثقافيّة كالتي نتحدّث عنها. فبطرّام مثلاً ( ترتفع عن سطح البحر مئتين وخمسين مترًا) هي قرية المفكّر شارل مالك والدكتور إيلي سالم، والدكتور فيليب سالم، و"البربارة" (مائتا متر) بلدة الشاعر القرويّ رشيد سليم الخوري، وبلدة "عمشيت" (مئة وعشرون مترًا) ومنها على سبيل المثال أدباء كأديب لحّود وعفيفة كرم وإلهام كلاّب البساط وفنّانون كروميو لحّود ومارسيل خليفة، و"بصاليم" (ثلاثمئة متر) بلدة الشاعر موريس عوّاد، وكذلك "جون" (ثلاثمئة وخمسون مترًا) وهي بلدة الفنّانَين نصري شمس الدين وحسن علاء الدين (شوشو) أو الدبيّة (خمسمئة متر) بلدة آل البستاني ومنهم المعلّم بطرس واضع المعاجم ومنشئ المجلاّت، وسليمان معرّب ألياذة هوميروس، وعبدالله صاحب "قاموس البستان" وسواهم من الأدباء والصحافيّين، وهي البلدة التي اعتادت فيروز، حين كانت لا تزال نهاد، أن تمضي الصيف فيها لدى جدّتها من آل البستاني. لكنّ كثافة الإنتاج الفنّي والأدبيّ وكثرة المبدعين الذين انطلقوا من المنطقة المشرفة على بيروت تجعلنا أكثر اطمئنانًا إلى حصر صفة الريف الساحليّ المبدع في منطقة تمتدّ من بلدات تحيط ببعبدا وصولاً إلى كفرشيما امتدادًا إلى إنطلياس. ومعروف أنّ ما نقصده بالإبداع هنا ينحصر في الناحيتين الفنيّة والشعريّة اللتين أطلقتا تيّارًا إبداعيًّا لبنانيًّا ذا نكهة خاصّة لم يسبقه ما يماثله. ولا تزعم هذه المقالة بالطبع الإحاطة بكلّ الأسماء التي لمعت في سماء الكلمة واللحن والصوت، فكيف يمكنها الإحاطة بالمبدعين في ميادين الفكر والعلم والسياسة واللاهوت والاقتصاد وهم أكثر من أن يحصيهم قلم، خاصّة بعدما أتيح العلم للجميع وكثرت المدارس وقامت الجامعة اللبنانيّة التي تفرّعت لاحقًا لتفيد منها الفئة الكبرى من المجتمع اللبنانيّ.
قد يثير هذا الكلام حفيظة البعض من الذين يجدون فيه إجحافًا في حقّ كثر من مبدعي البلد، إلاّ أنّ الإضاءة على منطقة معيّنة وتيّار شعريّ فنيّ مميّز لا تعني أبدًا التعتيم على مناطق أخرى ذات تجارب مختلفة ولغة مميّزة. ولكن لا يسع أحدًا أن ينفي دور البلدات المشار إلى بعضها، والتي كانت تستحقّ التفاتة ولو سريعة.
إنّ المركزيّة السياسيّة والإداريّة التي كانت لبيروت ساهمت في إقامة أحزمة لم تصل إلى مرحلة البؤس عهدذاك، ولكنّها كانت تعيش في تواضع اقتصاديّ يوفّر الضروريّات الحياتيّة، أمّا مؤونتها فذاكرة تغذّيها صور الحياة التي تشعّ في غير مكان وأمام سواهم من الناس. لذا كان على أبناء هذه الأحزمة أن يجدوا مخرجًا لهذه الصور المتراكمة، فكانت اللغة التي نقلوا بواسطتها عالمهم أمام الطبقة الثريّة في الدرجة الأولى، والتي كانت تطرب لسماع هؤلاء يتحدّثون عن معاناتهم وقصص حبّهم وتفاصيل حياتهم اليوميّة. ومن المثير أن نستعيد الآن عناصر اللوحة الاجتماعيّة وهي تتكامل حين يصفّق أرباب الطبقة الثريّة لمجموعة من شعراء الزجل تتراشق بالكلام، أو لمطربة فقيرة الأصول تصدح بصوت فيه كلّ الحزن والعتب، أو لشاعر باللغة اللبنانيّة ينقل تعابير أهل القرى وأسماء الحيوانات وأدوات الزراعة. بل من اللافت كيف أنّ اللبنانيّين في المغتربات كانوا يستدعون الشعراء والمطربين والمطربات ليستمعوا منهم إلى وصف عالم يتعايش فيه الفقر والشرف، البدائيّة والبراءة، الأميّة والطموح، والمفارقة أنّ ذلك العالم كان هو نفسه الذي هرب منه هؤلاء المغتربون للبحث عمّا لا يشبهه.
المهرجانات وجوقات الزجل
انطلقت الحركة الفنيّة اللبنانيّة مع أبناء الريف الساحليّ وتغذّت المهرجانات من مشاعرهم وأفكارهم، فكان منهم الشعراء والملحّنون والمطربون والمطربات والممثّلون والممثّلات، الذين كانوا الروّاد ويعود إليهم الفضل في تأسيس المعاهد الفنيّة والجامعات المتخصّصة وإن لم يدرسوا هم أنفسهم في مدرسة أو جامعة، ما يدلّ على انفتاحهم ورغبتهم في إتاحة الفرصة لمن يأتي بعدهم للإفادة من العلم والدراسة إلى جانب الموهبة الفطريّة. ومع ذلك فإنّ المهرجانات الفنيّة التي أعطت لبنان سمعة طيّبة وجذبت إليه أنظار العالم المتمدّن إنّما تدين لهؤلاء الروّاد بانطلاقتها (الأخوان رحباني، صباح، عصام رجّي، فيلمون وهبي، روميو لحّود، وديع الصافي، نصري شمس الدين...) كما أن حفلات الزجل، خاصّة زمن الفرق الكبيرة، كانت تستقطب حضورًا كثيفًا وما برح الناس إلى اليوم يردّدون أبياتًا قالها شحرور الوادي أو طانيوس عبده القصيفي أو علي الحاج وسواهم.
ذكر منير وهيبة الخازن في كتابه "الزجل" مجموعة كبيرة من الشعراء المعروفين والمغمورين وكثر منهم ولدوا وعاشوا في هذا الريف الساحليّ، وحول ذلك يقول في مقدّمة القسم السادس المخصّص لشعراء عصر الانبعاث (1800- 1900): " ما أن أطلّ القرن التاسع عشر حتّى انتشرت المدارس في القرى اللبنانيّة انتشارًا عظيمًا تحمل النور إلى أقصى البلاد، فاتّسع مع النور ميدان الزجل وظهر شعراء نفضوا عن الفنّ غبار السنين، وعملوا بنشاط على توطيد دعائمه ورفع لوائه عاليًا". وكان لبلدات وادي شحرور وبدادون وبعبدا والشويفات وكفرشيما وسوق الغرب والكحّالة وبتاتر حصّة ذات ثقل بالنسبة إلى باقي البلدات والقرى اللبنانيّة. ولكن عصر النهضة (1900- 1950) يتابع الخازن أعطى الزجل اندفاعًا جديدًا بعدما "قام أصحابه يؤلّفون الجمعيّات الزجليّة والفرق المسرحيّة وينشئون الجرائد والمجلاّت" (ص 220). ونلاحظ أنّ أكثر الصحف والمجلاّت التي تعنى بالزجل اتّخذت بيروت عاصمة لها ما عدا مجلّة السبعلي لصاحبها أسعد السبعلي إذ صدرت من طرابلس. ومن الجوقات أشار الخازن إلى جوقة شحرور الوادي وجوقة زغلول الدامور وجوقة الرابطة العامليّة وجوقة الأرز وجوقة شمال لبنان وجوقة حسّون الزجل وجوقة كبار الزجل. كما أحصى الخازن في النصف الأوّل من القرن العشرين 131 شاعرًا زجليًّا من الذين عرف إنتاجهم الشعري، وكان من بين هؤلاء نحو ثلاثين شاعرًا ينتمون إلى الخطّ الريفيّ المطلّ على الساحل البحريّ.
والطريف في الأمر أنّ الشعراء الزجليّين، ولو كانوا من خارج هذا الريف الساحليّ، علموا عصرذاك أنّ انطلاقتهم الحقيقيّة إنّما من هذه المنطقة ولا يتمّ الاعتراف بهم إلاّ إذا دخلوا في جوقاتها أو تباروا معها أو غنّوا من على منابرها. كانت ذائقة الناس النقديّة في المنطقة مؤهّلة للحكم على ما يقال وينشد ويغنّى، كانوا كلّهم في نسب متفاوتة شعراء زجل. ومن لا يجيد "القول" منهم كان ناقدًا مخيفًا يلتقط الخلل ويعيب الصورة التي سبق واستعملت، ويسخر من الكلمة الركيكة الأثر، ويتأذّى سمعه من الصوت المتعب العاجز. ولا يزال الأبناء في هذه المناطق يستمعون إلى آبائهم وأجدادهم يردّدون في ساعات الصفاء أبياتًا قيلت في حفل الغداء الذي تلا عمادة فلان، أو في عرسِ آخر، أو في استقبال زعيم الحزب أو نائب المنطقة، أو في مأتم شابّ غدر به الموت، أو في صبحيّة أحد الشعانين... وكلّ تلك الأبيات لشعراء لم يسمع بهم أحد ولم تسجّل أسماءهم كتب التاريخ والمراجع.
الريف الساحليّ في خبر كان
عندما تكون هذه البقعة من الريف الساحليّ خضراء بطبيعتها، غنيّة بمواردها، قريبة من المدينة وأعلى منها في الوقت عينه، تجذب السيّاح والمصطافين، مسوّرة بتقاليدها من ناحية ومنفتحة على الآخرين من ناحية ثانية، تتفاعل مع الأوضاع السياسيّة من دون أن تنغمس في ألاعيبها، عفيفة إلى حدّ النسك، وراغبة في المتعة حتّى الاستسلام لأيّ عابر طريق، فذاك يعني أنّنا أمام منطقة واعدة، خصبة المواهب، جريئة الفكر والمشاعر، تذهب إلى أقصى حدود التطرّف في القول والعمل. وكيف لا يظهر كلّ ذلك في لغة خاصّة مميّزة ما فتئنا حتّى اليوم نبني على أساساتها ونتغذّى من جذورها؟
أمّا المستقبل فعلى صورة الحركة الثقافيّة في لبنان الذي نعرفه جميعًا. احتلّت الأبنية الشاهقة المساحات الخضراء، واحتلّ الأبنية من لا وقت لديه لرؤية البحر أو الجبل، واحتلّت سطوح الأبنية الصحون اللاقطة الجاذبة كلّ ما يجري في العالم إلى صحن الدار. وكان على الريف أن ينسحب متراجعًا أمام المدينة الهاجمة سريعة وعنيفة، يرافقها زوال الطبقة الوسطى التي كانت صمّام الأمان اقتصاديًّا واجتماعيًّا والتي غذّت الحركة الفكرية الثقافيّة في لبنان. وبعدما كان الريف الساحليّ يطلّ على العالم من غير أن يكون من هذا العالم، صار العالم ملك يديه وصارت الكلمة تاريخًا نستعيد أمجاده في المقالات الصحافيّة التي تطمح إلى من يقرأها.
بعض من أثرى الحركة الثقافيّة في بلدات الريف الساحليّ
من بعبدا: من آل الملاّط الشعراء شبلي (شاعر الأرز) ونصري وفريد وتامر. وفي الشعر الزجليّ جرجي عبده ناضر وطانيوس عبده القصيفي وإميل رزق الله (اللويزة)، وفي الصحافة يوسف صالح الحلو وأسعد خالد الحلو...
من الحدث: طنّوس وفارس وأسعد الشدياق، يعقوب صرّوف (أحد مؤسّسي مجلّة المقتطف في مصر)، المؤرّخان ابرهيم فارس يزبك ويوسف ابرهيم يزبك، الشاعران جرجس خوري كرم وجورج يزبك، المدبّر في الرهبانيّة الأنطونيّة يوسف الشدياق منشئ مجلّة "كوكب البرية"، كما صدرت في البلدة جريدة "البيرق" لمؤسّسها سعيد فاضل عقل وجريدة "النصير" لصاحبها عبدو بك أبي راشد، وأقيمت فيها المطبعة الشرقيّة عهد المتصرّف مظفّر باشا (1902- 1917)...
من الشيّاح: الصحافيّ والنائب والوزير ميشال زكّور والحقوقيّ إدمون نعيم...
من كفرشيما: ناصيف وابرهيم اليازجي، شبلي الشمّيل، إدوار حنين، جورج الرجّي صاحب جريدة "الراصد". ومن الفنّانين: فيلمون وهبي ووليم حسواني وعصام رجّي وملحم بركات وحليم وماجدة الرومي وماري سليمان...
من وادي شحرور: سليمة أبي راشد (أوّل أديبة من الشرق في المهجر) وعبّود وفارس أبي راشد ونخله أسعد الحلو وكميل خليفة (كروان الوادي) وجوزف الفغالي (بلبل الوادي) والمسرحيّان أنطوان ولطيفة ملتقى والشاعران أنيس روحانا الفغالي ورفيق الفغالي...
من بدادون: أسعد الخوري الفغالي (شحرور الوادي) والفنّانة صباح...
من القماطيّة: الشاعر الزجليّ علي الحاج...
من الشويفات: الأديبة نجلا صعب...
من أنطلياس: الرحابنة... |
نشر هذا النصّ في جريدة النهار – الجمعة 3 آب 2001
هناك تعليقان (2):
Very good article, I enjoyed it a lot.
يسرّني ذلك. شكرًا
إرسال تعليق