يسيطر الشجن والأسى على الترانيم والتراتيل المارونيّة السريانيّة، ولا يكفي أن يحتفل المؤمنون بالميلاد أو الفصح أو يصلّون للعذراء كي تخفّ نبرة الشكوى. فلا الترنيمة الميلاديّة "أرسل الله ابنه الوحيد" تصدح بالفرح، ولا طلبة الفصح التي تبدأ بمريم كفّي البكاء تكفي لمحو آلام الجمعة العظيمة، ولا ترنيمة "إليك الورد يا مريم" تبعدنا عن واقع مأساوي بكلمات مثل: على الأبواب أطفال/ لهم في العمر آمال/ يذوب القلب إن قالوا/ جودوا علينا/ فإنّ الجوع يضنينا...
ومع ظهور قدّيسين جدد كشربل ورفقا والحرديني وغيرهم، نظمت لهم ترانيم وتراتيل، على ألحان تراثيّة معروفة، حزينة الإيقاع، شجيّة النغم، وكلّها تشي بحال الأسى وانتظار الخلاص وطلب المساعدة، كأنّ المسيح لمّا يأتِ بعد، ولبنان لم يكن يومًا ملجأ أمينًا.
لذلك تبدو هذه الصلوات صوت جماعة متواضعة الثقافة لا فلسفة ولاهوت يعيقان فهمها، تصدر عن حرقة ولوعة لا عن عظمة وانتصار ولا عن مجد يُفترض أنّه للبنان وأعطي لهذه الطائفة.
وأرى أنّ دراسة هذه الترانيم والتراتيل، بكلماتها وألحانها، وبغض النظر عن تأثيرات مشرقيّة مختلفة، أو لاتينية متنوّعة المصادر، سيوضح كيف أنّها، أي هذه الترانيم والتراتيل، إنّما هي صورة عن الواقع المارونيّ ببعده السياسيّ المأزوم دومًا، والاجتماعيّ المنطلق من بيئات زراعيّة فقيرة. ولافت كيف أن بعض الترانيم المستوردة بألحانها "تمورن" أي صار مارونيًّا، أي حزينًا، بطيء الإيقاع، مقطوع النفس، كأنّ من يؤدّيه عانى الأمرّين.
وللدلالة على ذلك، ليس
كترانيم الآلام المارونيّة العتيقة التراثيّة، بكلماتها البسيطة ولحنها الشجيّ، ما يصلح لوصف الوضع المارونيّ ماضيًا وحاضرًا وأكاد أقول مستقبلًا.
فحين
أسمع "يا شعبي وصحبي" تصل إليّ من خلال كلماتها أصوات جماعة مضطهدة تهرب
في وادي قنّوبين من مغارة إلى أخرى. وإذا بحثتُ عن صوت المصلوب فيها فلا أسمعه سوى من خلال حزنه على مصير
هؤلاء الناس أكثر من حزنه على مصيره.
وحين
ينطلق الصوت بعبارة "أنا الأم الحزينة"، لا تطالعني صورة مريم عند
الصليب، بل لوحات للأمّهات المارونيّات يندبن، جيلًا بعد جيل، أولادهنّ المأخوذين
أسرى، الممزّقين بين أحزاب وفئات ومناطق وتيّارات، الباحثين عن بلدان بعيدة عن هذه
الأرض تأويهم وتحميهم...
وحين
تنادي الأمّ الحزينة "وا حبيبي"، أسمع أصداء الحزن في أجراس الكنائس،
تتردّد في الأودية المهدّدة في كلّ زمن بغاصب أو مجتاح أو محتلّ... أو فاسد يبيعها أو يشوّهها!
وحين
يعلن المرنّمون أنْ "مات المسيح معذّبًا" قبل أن يقولوا "قامت مريم تندب ابنها"، تجيب الجبال بأسى: أما من نهاية لهذا الندب؟ أما من حظيرة آمنة
لهذا القطيع التائه؟
ما
أعرفه عن تراتيل الآلام عند غير الموارنة – ولا أدّعي الإحاطة بها – لا تثير الشجن
والحزن اللذين تنضح بهما رتبة الآلام عند الموارنة. فهل هو تاريخ هذه الطائفة يضع
نقاط الدم فوق حروف المعاناة، أم هي لوعة البسطاء تفيض دمعًا في كلمات تعبّر عن
سوء حظّهم بزعمائهم ورعاتهم عبر تاريخهم الطويل؟
لقد
باءت بالفشل محاولات كثيرة قامت بها الكنيسة لتجديد كلمات رتبة الآلام، والتذكير
بأنّها آلام خلاصيّة تنتهي بالقيامة. وفي حين استطاعت بعض الترانيم اختراق
الموروث، بقيت الذاكرة الشعبيّة الجماعيّة حريصة على استعادة دربِ صليب مشته الطائفة مرغمة
بين معابر الجغرافية ودروب التاريخ، بحثًا عن وطن لا يزال مفقودًا.
ولكن
الترانيم الجديدة كذلك لم تنجُ، لكونها لصيقة بالموسيقى المتوارثة أو مستوحاة
منها، من تأثير وجعٍ يعصر القلب، ويتّخذ من موت المسيح مناسبة للتفجّع على
الأحوال، وإن بكلمات شعريّة مختارة ومضمون أكثر انسجامًا مع اللاهوت.
ولكي
تكتمل صورة الفجيعة، تزدحم الكنائس بالناس. حتّى أولئك الذين يغيبون عادة عن
الاحتفالات الدينيّة، يحضرون للمشاركة في مأتمٍ تَدفن فيه هذه الطائفةُ أملها
بالخلاص، وترتدي النساء أثواب الحداد، اعترافًا بموت جماعة يُخشى ألّا تكون بعده قيامة.
نعم،
ثمّة حزن طاغٍ يتعارض مع أبسط شروط الإيمان بقيامة تمّت لحظة الصلب. ولكن متى
وضعنا حزن هذه الترانيم في إطار الجماعة المضطَهدة عبر العصور فهمنا سبب هذا الندب
والعويل والعتب والتساؤل عن مصير ظالم غير مبرَّر، يبدو فيها المسيح ناطقًا باسم
جماعة تدفع ثمن انتمائها إليه.
وأرجّح
أن تبقى هذه الترانيم لصيقة بالوجدان المارونيّ لا من باب المحافظة على التراث،
والتراث عرضة للزوال والتشويه، بل لأنّ الواقع يزداد مرارة، ودرب الصليب تطول
وتصعب، في حين تسهل دروب الهجرة وتنفتح مشرعةً أبوابُ اليأس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق