أكثر الذين اتهموا
الفلسطينيين ببيع أرضهم وبلادهم كانوا من المسيحيين. وأكثر
الشعراء الذين كتبوا قصائد في حبّ الوطن اللبنانيّ غداة تكوّنه كانوا من
المسيحيين. وأكثر الذين يفقدون الأمل بالكيان اللبنانيّ اليوم هم المسيحيّون الذين
يبيعون أراضيهم تاركين لغيرهم مهمّة التغنّي بالوطن الجديد الآتي من الجنوب على
جناحي المقاومة والتحرير، في أناشيد تمجّد الموت في سبيل أرض زُرعت ألغاماً وأنبتت
قبوراً. فلماذا يبيع المسيحيّون أراضيهم؟ وماذا في استطاعة الكنيسة أن تفعل للحدّ
من حركة البيع، أم فات الأوان ولم يعد في الإمكان تعويض الخسائر؟
لا يبيع كلّ
المسيحيّين أراضيهم من أجل تأمين العلم والاستشفاء لأولادهم، ولا يخفى أنّ كثيرين
يبيعون الأرض ليشتروا بثمنها سيّارات فخمة وبيوتاً كبيرة وأثاثًا فاخراً وبطاقات
سفر للسياحة. أمام كلّ هذه المغريات تبدو شعارات الأرض والوطن والبقاء والصمود
عملة بائدة لا قيمة لها في سوق التجارة. فالمسيحيّ بات ينظر إلى آنيّة المرحلة لا
إلى مستقبلها، ويريد أن يستفيد من اللحظة الراهنة لا أن يخطّط لآتي أيّام قد لا
يصل إليها. فالأرض بقاء والمسيحيّ يريد الرحيل، والعمل فيها ومن أجلها ميزته الصبر
والانتظار وتقبّل تغيّرات الطقس وشحّ المياه وبوار المواسم، والمسيحيّ بات يستعجل
الحصاد أيّاً يكن نوعه أو ثمنه. ولا بدّ من الاعتراف بأنّ امتلاك الكنيسة مساحات
شاسعة من الأراضي في لبنان ساعد في الحفاظ على الوجود المسيحيّ حتّى الآن، ولو
كانت في أيدي سوى الكنيسة لبيعت، ولكن هذا لا ينسينا محاولات جرت لبيع أملاك تابعة
للأوقاف أوقفها تدخل الفاتيكان، وان الاعتراف بدور الكنيسة في حفظ الأرض لا يعني
إعفاءها من أخطاء ارتكبتها كعدم استغلال هذه الأراضي لإنشاء فرص عمل، فهي اكتفت
معظم الأحيان بتأجير ما تملك لمحسوبين عليها مع ما يرافق ذلك من سمسرة وتجارة
وسرقة. ولعلّ الخطأ الأكبر الذي ارتكبته الكنيسة هو حصر تفكيرها في اتجاه تأمين
منازل للسكن أو مساعدات مدرسيّة أو إعانات غذائيّة. في حين أنّ المنزل لا يؤمّن
دخلاً ولا قسطًا مدرسيّاً ولا طعاماً، أمّا العمل فيؤمّن كلّ ذلك من دون أن يكون
الناس عبئًا اقتصاديّاً على المؤسّسات الكنسيّة.
في موضوع بيع
الأراضي، لا يتحمّل المسيحيّون وحدهم المسؤوليّة، فثمّة فريقان آخران لا يمكن
تبرئتهما هما مسلمو الشرق ومسيحيّو الغرب. فمن واجبات المسلم الدينيّة والقوميّة
والوطنيّة منع المسيحيّ من الهجرة لا أن يكون السبب في تهجيره، وإلاّ فلن يبقى
الشرق ملتقى الديانات، ولن تكون لبلدان كفلسطين ومصر والعراق وسوريا ولبنان
هويّتها التعدّدية التي كانت لها. ولهذا لا تبدو الهجمة الإسلاميّة من لبنانيين
وعرب على شراء العقارات في المناطق اللبنانيّة المسيحيّة بريئة خصوصاً متى راقبنا
التنافس بين اللبنانيين الشيعة والعرب السنّة، في وقت يعرف المعنيّون بالأمور ما
ينتج من ذلك على صعيد التوزيع السكانيّ والتوازن الوطنيّ، لأنّهم بقدر ما يتوسّعون
يجبرون المسيحيين على التقوقع في مناطق معيّنة في انتظار الهجرة أو الموت. علمًا
أنّ الحجّة التي تُعطى وهي أنّ التزايد السكّاني يتسبب بالتوسّع غير صحيحة، فهناك
الكثير من المساحات الخالية من السكّان في مناطق محسوبة على المسلمين ولا يبدو أنّ
أحداً يفكّر في الاستثمار فيها. لا يعني هذا الكلام في طبيعة الحال أنّه يجب فرز
المناطق طائفيّاً، ولو كان المسيحيّ يبيع هنا ليشتري هناك لكان الأمر مفيداً على
صعيد الانصهار الطائفيّ، ولكن حين يكون البيع والشراء حركة اكتساح في اتجاه واحد
يقع الخلل.
ومن واجبات مسيحيي
الغرب الذين يدّعون الاهتمام بمصلحة أبناء دينهم في الشرق أن يساعدوهم على البقاء
في أرضهم عبر تأمين مستلزمات الصمود والحياة الآمنة الكريمة من دون انتداب أو
استعمار أو حروب، على الأقلّ ليبقى للمسيحيين وجود في أرض المسيح ومهد المسيحيّة.
ولكن ما يحصل هو العكس تماماً مما يجعل الدول الغربيّة، حكومات وشعوبًا وكنائس،
تضاعف الشرخ بين مسيحيي الشرق ومحيطهم، وتسهّل في ظروف مصيريّة معيّنة الهجرة
إليها. فلنتذكّر أنّ الأموال التي تدفع لإقامة أيّ مؤتمر أو سينودس للبحث في مصير
مسيحيي الشرق تكفي لشراء مساحات شاسعة من الأراضي تضمن بقاء هؤلاء في بلدانهم.
وهذا أمر يتحمّل المسيحيّون وحدهم مسؤوليّته متى اكتمل المشهد بالذين يبيعون الأرض
ليقيموا عرساً فخماً أو مأتماً فيه أكثر من مطران وعشرات الكهنة، فيخسرون الأرض
ولا شيء يضمن أنّهم يربحون السماء.
جريدة النهار - الثلثاء 28 أيلول 2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق