قراءة جبرا قبيل الرّحيل
حين يطوف وحين العكس
يقول جبرا ابراهيم جبرا (*) في مقدّمة كتابه "شارع
الأميرات" (1): "كان كتابي "البئر الأوّلى" صدر يومئذ،
وأدهشني ما لقي من صدى لدى القرّاء الّذين راحوا يطالبونني بالاستمرار به ـ إذ كنت
قد توقّفت فيه عند بلوغي الثّالثة عشرة من عمري ـ شاعرًا إنّ طور المراهقة وبداية
النّضج لا بدّ لهما من خطّة أخرى في
السّرد والمعالجة" (ص 7).
للوهلة الأولى، قد تبدو المسافة الّتي تفصل بين كتابي
جبرا ابراهيم جبرا قريبة، ولكنّنا مع التّوغّل في صفحات الكتاب الثّاني نجد
المسافة بعيدة بين عالم الطّفولة وعالم المراهقة وبداية النّضج. ومع ذلك لا يمكننا
إلّا أن نقول إنّ هذا الرّجل بارع جدًّا في قدرته على الإيحاء إنّ طفلًا فقيرًا لم
ير العالم ولم يعرف الشّبع هو الّذي يروي أخبار "البئر الأولى"، حين إنّ
شابًّا سافر ورأى وازداد خبرة هو الّذي يسجّل ذكريات "شارع الأميرات".
غريب هذا المناخ الأدبيّ الّذي يتلاعب به جبرا، يحيّرنا
ويثير اضطرابنا حين ينتقل بنا من عالم الطّفولة البريئة ليرمي بنا غرباء في مرافئ
المدن الغريبة.
نعم، إنّها المسافة بين عمرين ومكانين. إنّه العالم
المتغيّر تبعًا لنظرة الطّفل إليه أو لنظرة الرّجل. ففي الكتاب الأوّل عالم
الوالدين والجدّة وفلسطين، وفي الكتاب الثّاني العشيقة والصّديقة والزّوجة،
والأدباء والفنّانون، ولكلّ منهم أثر وذكرى، ولندن الّتي قسّمت فلسطين، وبغداد
بشوارعها وعائلاتها، وأميركا بجامعاتها ووجوهها.
هي سفرة ممتعة ـ في القسم الأوّل منها على الأقل ـ تلك
الّتي يدعونا إليها جبرا في كتابيه هذين، في القطار السّريع حاليًّا، البطيء
يومها، يربط بين الطّفل الّذي كان ـ وما زال وإلّا لما كتب جبرا عنه ببراعة ـ
والرّجل الّذي صار إليه ذاك الطّفل، وكانت ملامحه تبدو في تصرّفات ذاك المسافر عبر
مدن فلسطين "مزروكًا" في سيّارات الأجرة، مسجّلًا المشاهد والأصوات،
ومثيرًا المتاعب الّتي لا تؤذي.
تتناول فصول "شارع الأميرات" مراحل زمنيّة
مختلفة، في أمكنة تتوزّع بين الشّرق والغرب. ففي الفصل الأوّل أخبار الرّحلة
الأولى إلى خارج فلسطين. والوصول إلى مصر، لينتقل منها إلى انكلترا، حيث سيتابع
الكاتب دروسه الجامعيّة في بعثة دراسيّة. يقول: "كنت في التّاسعة عشرة من
عمري يوم وصلت إلى بور سعيد، بعد رحلة ليليّة طويلة في القطار من مدينة يافا.
وكانت تلك أوّل مرّة أخرج فيها من بلدي إلى آفاق العالم العريضة، مليئًا بالحماسة
لكلّ ما يثير في العين والذّهن" (ص 11).
في الفصل الثّاني، أخبار أولى المغامرات العاطفيّة
"بعد تجربة عرفتها في القدس بقيت، رغم لذائذها ولياليها المؤرقة في نطاق
الهوى العذري، أمّا هذه المرّة فكان الحبّ عاصفًا كالرّيح، وجارفًا كالسّيل، فضاؤه
الحقول الخضراء، والأشجار البواسق. يضجّ بالجسد كما يضجّ بالرّوح، إذا كانت الرّوح
هي مطلقة ذلك الكلام الجامح اللّامنتهي" (ص 27).
"سيّدة البحيرات" هو عنوان الفصل الثّالث،
وفيه وصف دقيق لمكان ترك أكبر الأثر في ذكريات الكاتب خلال إقامته في بريطانيا وهو
المعروف "بمنطقة البحيرات". والسّيّدة "ذات الثّوب الأبيض الطّويل
والشّعر الأسود المرسل مع الرّيح" أهي طيف ظهر في رؤيا جبرا ابرهيم جبرا
ليسأله عن الأرض المقدّسة الّتي أتى منها وعن لغة المسيح أم هي امرأة حقيقيّة من
لحم ودم، ظهرت ثمّ اختفت فجأة؟ جبرا نفسه لا يعرف الجواب عن هذا السؤال.
ولعلّ أطرف ما في الفصل الرّابع هو ذلك الأسلوب البوليسي
الشّيّق، اختاره الكاتب ليخبرنا عن لقائه بسيّدة الرّواية البوليسيّة، أغاتا
كريستي.
ويبدأ الحديث عن لقائه لها أنّها زوجة عالم يعمل في
التّنقيب عن الآثار في العراق، ماكس مالوان، لنفاجأ مع اقتراب نهاية الفصل بأنّها
أغاتا كريستي و"احتفظت بالاسم الّذي اكتسبته منذ ما قبل العشرينات عن زوجها
الأوّل الكولونيل كريستي. ولمّا هجرها، ثمّ مات، كانت شهرتها أوسع من أن تجعلها
تتنازل عن هذا الاسم" (ص 65).
"شارع الأميرات" هو المكان الّذي بنى الكاتب
بيته إلى جانبه. وفي هذا الفصل حديث عن رياضة المشي ووصف للشّارع وأشجاره وزوّاره
وساكنيه. وقد يكون هذا الفصل من أقلّ فصول الكتاب أهميّة لولا بعض المعلومات
التّاريخيّة عن حركة البناء واسماء المهندسين. واختيار اسم هذا الفصل عُنوانًا
للكتاب أمر ذكيّ وكأنّ المقصود منه الإشارة إلى هذا الانتقال من بيت نختاره للبئر
الّتي فيه، إلى شارع الأميرات حيث الإقامة الحاليّة، وفي الاسم ما فيه من علامات
العظمة والمجد.
الفصل السّادس ـ وهو أطول الفصول، في اثني عشر مقطعًا في
أكثر من نصف الكتاب ـ قصّة لقاء الكاتب بلميعة العسكريّ "المرأة الأروع في
حياتي ـ يقول ـ تلك الّتي جعلت لكلّ ما حدث لكلينا آنئذ وفي السّنين اللّاحقة
سحرًا تتمحور فيه معاني الحياة، ليس فقط كأناس وعلاقات متداخلة يغني بعضها بعضًا،
وليس فقط كتجارب متواترة تعاش بكلّ
لذّاتها وعذاباتها وتناقضاتها، بل كإبداعات أيضًا تعطي التّجربة كلّ مرّة قيمتها
العميقة وتفرّدها الدّائم" (ص 102)، وفي هذا الفصل تفاصيل عن حياتهما
الاجتماعيّة المشتركة، والصّعوبات الّتي واجهت زواجهما، وكيف تمّ تذليلها،
والمشاكل الماليّة، والتّقلّبات في الوظيفة وأسماء لأصدقاء وصديقات
و"زيجات" وسفر وعمل وأحلام وخيبات.
وثمة ما يزعج في هذا الكتاب، وربّما في كلّ كتاب حيث
السّيرة الذّاتيّة، وهو إحساس الكاتب بضرورة ذكر أسماء الأشخاص كلّ الأشخاص،
الرّئيسيّين والثّانويّين، وكأنّه مدين لهم. بخدمة ما، أو كأنّه ينفّذ عهدًا قطعه
أن يذكرهم بالخير يوم يكتب عن حياته. ولهذا يمتلئ الكتاب بأسماء كثيرة، بعضها
معروف لدينا، وبعضها غريب إلّا من عناصر تلك المرحلة.
ويزعج القارئ في الكتاب الأخطاء اللّغويّة الّتي نظنّ
أنّها مطبعيّة لولا ورودها مرّات عدّة:
كما في استعمال كلمة سنين منصوب بالتّنوين (سنينًا) في الصّفحات 75 و 183 و 209 و
216، واستعمال حرف الجرّ الباء للدّلالة على المكان كما في قوله "أنت
ببغداد" (ص 217)، أو قوله "دعتني للعشاء" بدل إلى العشاء (ص 160).
ويكثر الكاتب من استعمال هذه الصّيغة "دقّة وجمال نحتها" (ص 68) والأصحّ
دقّة نحتها وجماله، منعًا للتّنازع. والكاتب لا ينصب الاسم بعد الحرف المشبّه
بالفعل فيقول: "إنّ نزار سيكون..." (ص 177)، ولا ينصب المفعول به فيقول:
"لا يشبه خالد" (ص 189)، ويقول في حديثه عن مثنّى الإناث: "أنا
وابنتي سعيدان جدًّا"، ويستعمل كلمة "نفسه" للتّأكيد قبل المؤكّد
فيقول: "نفس السّنّ"(ص 177).
أصابني هذا الكتاب بالخيبة بعد الرّحلة الممتعة الّتي
بدأتها في "البئر الأولى"، ففي "شارع الأميرات" تصنّع الرّجل
ومراعاته الأصول الاجتماعيّة، بعد إن كنّا
مع عفويّة الطّفل وبراءته. "البئر الأولى" كتاب لا تتركه إلّا أتيت عليه
كاملًا، أمّا "شارع الأميرات" فتقرأه وكأنّك تقوم بواجبك المدرسيّ.
ولهذا، ربّما، لم يترك أي مقطع أثرًا في نفسي. حتّى وهو يتحدّث عن حبيبته كان
يختار كلماته بعناية، حين إنّ حديثه عن أمّه كان أكثر عفويّة وأكثر عمقًا وأثرًا:
"وحكت لي كيف إنّها في أثناء السّنوات الّتي قضيتها في الدّراسة في الخارج،
وكانت للعائلة سنوات عجافًا عسيرات، وفّرت من النّقود ما يكفي لشراء شوكة وسكّينة
من الفضّة لاستعمالي الخاصّ عندما أعود إليها. تلك كانت هديّتها لي... وبقيت في
السّنين التّالية مصرّة على ألّا يستعملها أحد غيري. وكلّما عدت من بغداد إلى
أمّي، أخرجتها من جديد، وجلتهما حتّى يأخذ بريقهما البصر، لتضعهما أمامي على
المائدة كلّما حان وقت الطّعام... أيّ حبّ أرقّ وأعذب من ذاك في الدّنيا
كلّها؟" (ص 222).
"البئر الأولى" كتاب شعر، "شارع
الأميرات" كتاب تاريخ، وشتّان بين اللّغتين.
ميّ م. الرّيحاني
الاسم المستعار لماري القصّيفي
الاسم المستعار لماري القصّيفي
جريدة
"النّهار" الجمعة 16 كانون الأوّل 1994.
(1)
ـ "شارع الأميرات"، فصول من سيرة ذاتيّة، جبرا
ابرهيم جبرا، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر، الطّبعة الأولى 1994.
(*)ـ الكاتب
جبرا ابرهيم جبرا، توفّي في بغداد، يوم الإثنين 12/ 12/ 1994.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق