لاجئات فلسطينيّات إلى لبنان عام 1948 |
|
في عصر ما بعد العولمة، وفي مرحلة ما بعد الثورات العربيّة التي صارت أوهام انتصارات إسلامويّة، وبعد نأي المشرق عن المغرب، وازدياد الهوّة بين الشرق والغرب رغمًا عن فورة الاتصالات السريعة، تبدو العروبة جثّة مرميّة على قارعة الطريق، لا أحد يجرؤ على الاعتراف بقتلها، ولا أحد مستعدّ لتحمّل تكاليف دفنها!
ربيع الحركات الإسلاميّة صحراويّ جافّ، غبارُه أكثر من أزهاره وعسله، وحرارته تخنق أنفاس الفكر وتطبق على صدر الحريّة. أمّا المسيحيّون ففي خريف لا يحسنون فيه الاستعداد لشتاء يليه: فلا زيت في خوابيهم، ولا قمح في أهرائهم، يتناثرون كأوراق الشجر الذي لا تربة تتمسّك بجذوره.
بين هذين الربيع والخريف، تبدو العروبة، التي راهن العلمانيّون على كونها درب الخلاص، مجرّد ذكرى، لن يكتب الكثير في رثائها، لانشغال أهل هذه الأرض في انتظار من يقسّم عليهم تركة العجوز المريضة، كما حصل للرجل التركيّ المريض عقب الحرب العالميّة الأولى.
فالعروبة التي ضيّعت في الأوهام طفولتها، أضاعت فلسطين في صباها، ثمّ باعت نفسها في أسواق النفط، لينتهي بها الأمر جارية كهلة في قصور الديكتاتوريّين، يتلاعبون بها ويسخرون منها حين يوحون لها بشباب وعافية ما عادت تملكهما. هذه العروبة من يذكرها اليوم؟ من يتذكّر ملامحها وصفاتها؟ من يحلم بعد في أن ينجب شعوبًا جديدة من رحمها التي اعتادت إسقاط الأجنّة؟ من يراهن على نجاتها في صراع الحضارات؟ وبأيّ سلاح ستواجه الترك والفرس والبربر والكُرد والشركس وغيرهم من الشعوب والقبائل والإتنيات التي تريد اليوم أن تستعيد هويّاتها، ولو لمجرّد ردّ الاعتبار وإثبات الوجود، ناهيك عن الرغبة في التحرّر والسيطرة بل التمدّد والتوسّع؟ هذا إن أسقطنا من حسابنا الأرمن والموارنة والأقباط الذين تتلاعب بمصائرهم، كمسيحيّين، عواصف السياسة الدوليّة، وعواطف المنتمين إليها!
هذه العروبة التي ناءت رفوف المكتبات تحت ثقل مجلّدات تشيد بها وبإنجازاتها، كيف اختفت فجأة؟ كيف انتهى أمرها بعدما شرّد الحكّام من قصورهم وقتلوا وسجنوا؟ فلو كانت من نسائهم لهرّبوها معهم! ولو كانت من محظيّاتهم لأمّنوا لها آخرة صالحة! لكنها عجوز انتهت مدّة خدمتها، فلا هي خدمت غير المسلمين، ولا الإسلاميّون اليوم في وارد أن يعيدوا إليها مجدها الغابر! وما لم يتّفق أهل الخير على دفنها، ستبقى العروبة جثّة تنهشها الوحوش الكاسرة وتتناهشها الطيور الجارحة إلى أن تنتهي في التراب، حيث لا مدفن يتبرّك به أحفاد المؤمنين بها، أو يزوره السائحون الراغبون في صورة إلى جانب ضريح من كانت مالئة الدنيا وشاغلة الناس والمشغولة على الدوام عن دورها الأساس!
هناك 6 تعليقات:
تبدو العروبة جثّة مرميّة على قارعة الطريق، لا أحد يجرؤ على الاعتراف بقتلها، ولا أحد مستعدّ لتحمّل تكاليف دفنها!.. رائع .. واكثر ..
تحيّاتي وشكرًا لك
أنت أكثر منّي معرفة بنتائج هذه "العروبة"! معاناتك مع النظام شاهد حيّ في أزمنة القتل!
سيدتي، تحية طيبة
اكتشفت مدونتك من عهد قريب، منذ أن اشتريت ديوانك أحببتك فصرت القصيدة. أحبها وكتاباتك جميلة.
أما عن العروبة والخريف الإسلاموي، فلأ يا سيدتي، لأ، أرجوكم، لا تحكموا على الظواهر ولا تتمسكوا بأحكامكم المسبقة.. خريف! عن أي خريف تتكلمون وكأننا كنا نعيش في سويسرا! أما عن العروبة، فلا تسائلوا الاسلامويين عنها واسألوا العروبيين الذين يتشدقون منذ نصف قرن بها ثم يركبوها كل بدوره ليصلوا إلى السلطة أو المال أو الحرب... بالله عليكم، بالله علينا... دعونا نحكم عالقل والمنطق ولا ننسى تاريخنا القريب جدا جدا جدا.
لا يهمني أن ينشر تعليقي، يهمني أن يصل إلى أناس من درجتك الثقافوية والأدبية لنصير جميعا في سبيل عالم أفضل. أما العروبة... فقد أتعبتنا ولم تعطنا شيئاً.
شكرًا لشراء كتابي ... فهذا أمر نادر حصوله خارج حلقة الأصدقاء :)
لست في درجة ثقافوية مختلفة وبالتالي نحن في المرتبة نفسها وهذا شرف لي
أهلًا بك ومرحبا
أعتذر عن قولى هذا مسبقاولكنك تطلبين ألمستحيل -تطلبين أن ينكر ألأنسان ألثدى ألذى لامس شفتية أول مرة ورحمة من ألأحساس بألم ألجوع- وهذا لاينطبق على فصيل واحد أنماينطبق على ألجميع- ومازال فى شيخوختنا يقينا من ألم ألتوهة
يا عادل
لا داعي للتنكّر للثدي الذي لامسناه رضّعًا.. لكن مع العمر بات علينا أن نأكل من صحن الوعي لعلّنا نكبر بالحكمة ونصحّح مسرى العروبة ونبعدها عن النقديس
إرسال تعليق