أكبر جرس في الشرق، أعلى مئذنة، أكبر كاتدرائيّة، أعلى صليب، أكبر مسجد، أطول لحية، أكبر عمامة، الله أكبر، الله كبير،...: هذا ما تتبارى به الدياناتان الكبريان في العالم. في المقابل، نجد أنّ محور العِلم هو الخليّة، الميكروب، النُطفة، الذرّة، الجرثومة، الحشرة، أصغر شريحة إلكترونيّة، أصغر خلويّ، أصغر لابتوب...
الصراع إذًا ليس بين الشرق الروحانيّ والغرب الماديّ، ولا بين شمال الأرض المتخم وجنوبها الجائع، هو في كلّ بساطة صراع بين الدين الذي يؤثّر على أتباعه بالأحجام الكبيرة والضخمة، والعلم الذي يعرف أنّ الشيطان يكمن في التفاصيل الصغيرة، وكذلك الخير. هكذا كان الأمر وهكذا سيبقى. وهل الآثار الضخمة التي تجذب أنظار الناس سوى مدافن أو قصور أو قلاع أو حصون، أقيمت كلّها لحماية الأحياء والأموات من الذين يملكون سلطتين تكاملتا منذ فجر الإنسانيّة الاجتماعيّة وهما الدين والسياسة، في حين بقي العلم منعزلًا في مختبرات صغيرة، نائية، منعزلة، صامتة. وكانت النتيجة أنّنا مهما صرخنا الله أكبر سنقضي برصاصة صغيرة أو نشفى بحبّة دواء تكاد لا ترى أو نتحصّن من الوباء بنقطة من لقاح.
وعلى رغم مسيرة الحضارة التي قطعتها البشريّة، لا يزال الدين يبحث عن تكبير مساحة وجوده، في حين يستمرّ العلم في تصغير مادة عمله، فالعجلة (الدولاب) التي نقلت الحضارة من مستوى إلى آخر، بدأت كبيرة ضخمة ثمّ توصّل الإنسان إلى الاقتناع بأن ليس حجمها هو ما يعطيها دورها بل التقنية التي تجعلها تقوم بالعمل المطلوب منها مهما كان حجمها. لذلك يسهل أن ننقل خزانة كبيرة إن كان لها عجلات صغيرة متينة. والنار التي تدفئ لم تعد موقدة كبيرة هائلة، والملابس التي تنشر الحرارة في الجسم ليست الآن السميكة الثقيلة...
يدلّ ذلك على خشية رجال الدين من عدم إبهار أتباعهم الذين لا يزالون في طور طفولة فكريّة وإيمانيّة تجعلهم يصابون بالذهول أمام العظمة والضخامة والحجم الهائل، أو على عجزهم عن إيصال فكرة الله ما لم يربطوها بمحسوس ماديّ تسهل رؤيته حتّى من بعيد (كمعبد بعلبك الذي كان فيه تماثيل وأنصاب من الذهب، تعكس أشّعة الشمس فيراها الحجّاج من بعيد)، في حين لا يمكن للعين المجرّدة أن ترى الفيروس الذي ينقل المرض، فترمى التهمة على السماء الشاسعة والرب الذي فيها، والمفروض أن يكون كبيرًا انسجامًا مع حجم المكان الذي يُعتبر عرشه ومسكنه.
وما دام العقل "يصغر" أمام إله "يكبر"، فلا خلاص للبشريّة من جحيم جهلها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق