مثقّفون
ليت عددهم يكثر ولا يكونون طبقة في ثبات
كان المقاتلون السّابقون ينظرون بدهشة كبيرة إلى جدران
المبنى الذي كان مركزًا لهم لأشهر خلت ومرد دهشتهم أنّهم لم يروه يومًا على مثل
هذه النّظافة وهذا التّرتيب. وكانت نسمة باردة تسري في عروقهم وهم يراقبون أنماطًا
من النّاس لم يعتادوا رؤيتها في مركزهم المرتدي حلّة باهرة ذاك المساء الخريفيّ
بعد شحوب استمرّ سنيّ الحرب المسمّاة لبنانيّة، وأكثر ما يلفت انتباههم ويجعل
أنظارهم في زوغان عظيم أولئك النّسوة الوافدات بأحلى زينتهنّ كأنّهنّ يأتين إلى
"عرس الموسم". وكانت رؤوسهم تدور. كان دوار جماعيّ يصيبهم معًا من تلك
الرّائحة تعمّ المكان منبعثة من النّسوة إيّاهنّ. رائحة غريبة لم يألفها أنف هي
خلاصة اختلاط العطور الوافرة تلك العشيّة واختلاط المشاعر أيضًا.
لم يكن المقاتلون السّابقون، على يقين تامّ من طبيعة
المشاعر التي تغمرهم. أهي البهجة انتقلت إليهم بالعدوى من قائدهم الضّاحك خلف
نظّارتيه والممتلئ ثقة وحبورًا واطمئنانًا إلى المستقبل، أم هو القلق يساورهم من
هذا التّحوّل المفاجئ الذي حلّ بهم. وكانت علامات القلق تتبدّى من أيديهم الممتدّة
بين فينة وأخرى تتحسّس ربطات العنق فيما
تبدو على سحناتهم إشارات ضيق غير واضحة المعالم. أهو ضيق من زحمة المكان أم من
ربطات العنق الطّارئة على الأعناق، لكنّهم كانوا أكثر وداعة واطمئنانًا إذ تلوح
منهم لفتة إلى قائدهم يصافح زائريه الرّافلين في آخر مبتكرات دور الأزياء، أو
يحادث "وزير الثّقافة" بصوت عالٍ عن ضرورة هزّ الثّقافة وإيلائها
الإهتمام اللاّزم.
بعضهم، أي بعض المقاتلين، كان في حيرة من أمره شديدة،
فثمة بين الوافدين وجوه تربى على كراهيتها والعداء لها بكونها "عدو
الشّعب" و"قوى رجعيّة"، وهي الآن أشدّ حظوة لدى القائد من الآخرين.
بل انّ إنّ القائد يحرص على مسايرتها والإهتمام بها إلى درجة تثير الحنق. كان هذا
البعض يسارع إلى تأنيب نفسه ويلوم أفكاره الخاصّة ويرتعد في سريرته لأنّه تجرّأ
على السّخط، حتّى ولو ظلّ هذا السّخط مقتصرًا على دخيلته ويعود ليقول في سرّه إنّ
القائد أدرى بالمصلحة الوطنيّة وما تقتضيه من آراء وتصرّفات. وكان القائد سعيدًا
بين ضيوفه ومدعوّيه مثل عانس فرحة بأصدقائها القدامى أيّام الثّانويّة العامّةإذ
جاؤوا إليها في حفل عشاء.
هكذا نجد اليوم الكثيرين من "عوانس" الحرب
اللّبنانيّة وميليشياتها يبحثون عن عريس مفقود ولا يجدونه إلاّ في الثّقافة التي
تكاد تصير "فشّة خلق" لكلّ باحث عن دور ضيّعه على مفترقات السّباسة
اللّبنانيّة ومتاهاتها الكثيرة، ومرتعًا لكلّ الّذين فشلوا في نيل سلطات ومكاسب
ميليشياويّة أو إيديولوجيّة أو سياسيّة فجاؤوا إلى الثّقافة يعوّضون الخسارة
ويستردّون بعض ما ضاع. وأعود إلى تكرار ما قلته من فترة إنّ الثّقافة في بيروت
اليوم، وأعني النّشاط الثّقافيّ، أكثر إغراء من أي وقت مضى لما توفّره من مظهر
اجتماعيّ أو تعوّضه من أدوار مفقودة. وهكذا أفهم ما أسمّيه دائمًا "الحصبة
الثّقافيّة" التي تضرب المدينة بين حين وآخر، دون أن تنفذ إلى العمق، إلى
الجوهر حيث تختمر التّجارب وتنضج ويطلع منها الجديد، بل تظلّ على السّطح جزءًا من
المظهر الإجتماعيّ "المدينيّ" إشبه بحفلات الأعراس والمآدب التي لا تكون
دائمًا شهيّة بالضّرورة.
ومن مظاهر الإقبال على الثّقافة اليوم عبر رفع لافتة لها
أو بإسمها إن صار كلّ من لديه "صالون وسفرة" مفتوحان بعضًا على بعض
يجعلهما صالة عرض أو "كاليري دار" أو صالونًا أدبيًّا. راميًا كلّ
الشّروط المفترضة في صالة العرض وكلّ الحرمات التي للوحة، أو كلّ الإعتبارات
الضّروريّة في حلقات النّقاش المنزليّة التي هي اليوم أكثر من "الهمّ على
القلب" توزّع الصّفات والألقاب على كلّ ساعٍ إلى مجد الثّقافة الإجتماعيّ.
وكنت أتحدّث عن المقاتلين السّابقين في حفل افتتاح، وكنت
أتحدّث تمامًا عن هذه الصّورة. وذاك المبنى كان مركزًا لهم أشدّ إلفة ومدعاة
للطّمأنينة مما هو عليه اليوم منتدى ثقافيّ يحمل على منكبيه، وفق البيان الصّادر
عنه، ما تنوء به وزارة الثّقافة مهما بلغت من الفعليّة والجدّيّة في تنكب أحمال
التّنشيط الثّقافيّ، والمركز ذاك مثال عشرات المراكز التي تحوّلت (أو تستّرت) من
حزبيّة إلى ثقافيّة وفي حالات أخرى إلى "دفاع مدنيّ" (لعلّه) يتحيّن
الفرص للعودة إلى سيرته الأولى، أي "دفاع عسكريّ" من تلك الدّفاعات التي
أرقت حياتنا ردحًا. واللاّفت في هذه الحالات إنّ القيادة الحزبيّة العائدة من سبات
بحجّة فعل الحياة الثّقافيّة في المدينة والحريصة فجأة على الإبداع والمبدعين، هي
نفسها التي حاربت طويلاً الخصوصيّة الثّقافيّة لبيروت، وساهمت في تهشيمها وتهميشها
في حقبة سابقة وهي التي كبحت جماح المبدعين وضاقت بهم ووضعت لهم سقفًا حرّم عليهم
تجاوزه. لكن ما بالي لا أقول عفا اللّه عمّا مضى، وحسنًا تفعل هذه القوى بانتقالها
من السّياسة اللّبنانيّة الرّثّة ومن خطابها العنفيّ الإلغائي إلى الثّقافة ومداها
الرّحب ومناخها التّطهّريّ. لا أفعل، ولا أقول لها عافاك لأمرين:
أوّلهما إنّها تأخذ الثّقافة واجهة، وتعويضًا عن دور
سابق كما قلت من قليل. ويصير منبرها مثابة إطلالة اجتماعيّة لقادتها وجلّهم على
خصومة فعليّة ومستحكمة مع الثّقافة والمعرفة المنفتحة خارج حدود الأيديولوجيّة
و"جمارك" العقائد التي كانت إلى الأمس القريب تفرض "رسومها"
على النّصّ الإبداعيّ. ولو قلنا إنّها مجموعة حرّة أن تفعل وتقول ما يحلو لها
شأنها شأننا نحن خارجها في أن نقول العكس انطلاقًا من الحريّة نفسها، فذاك حقّ. لكنّه لا يلغي واقع إنّ
صدقيّتها على المحكّ في ما تقوله وتسعى إليه مجدّدًا مع تبدّل الشّكل وحسب. وكيف
لمثلي أن يصدّق هؤلاء القادة وهم يعاملون ناسهم على هذه الصّورة غير السّويّة.
إشارة منّي إلى أولئك المقاتلين السّابقين الّذين اهتزّت الأرض تحت أقدامهم وكاد
توازنهم يختلّ بفعل التّبدّل الطّارئ على وظيفة الجماعة المنتمين إليها دون سابق
إنذار أو تهيئة، وهم الّذين ضيّعوا العمر وجناه يجدون أنفسهم مجرّد سائقين أو
مرافقين أو حرّاس. لكن هذه المرّة بثياب مدنيّة، على أبواب المراكز التي بدّلت
أسماءها، أو موظّفي استقبال في حفلات البهرجة والكوكتيل، الثّقافية دائمًا بحسب
بطاقات الدّعوة. وكيف ينتج ثقافة للمدينة من لا يفعل ذلك لناسه الأقربين؟ ويظلّ
إلى جهلهم أكثر اطمئنانًا وركونًا. والأمر الثّاني انتقال أخلاقيّات الحرب
وموروثاتها وأشكال التّخاطب فيها مع انتقال هذه الفئات من السّياسة إلى الثّقافة.
واضح هنا إنّي سيّئ الظّنّ دائمًا بهؤلاء الّذين أشير إليهم. لأنّي على قناعة
راسخة بأنّ الإنتقال الحاصل، والمرشّح للإزدياد، لم يتمّ نتيجة مراجعة نقديّة
أسفرت اقتناعًا لدى قوى الحرب المسمّاة لبنانيّة، بضرورة إعادة ترميم الوجدان
العامّ بواسطة الثّقافة في معناها الواسع، وإعادة الإعتبار للكتابة والقراءة
والمعرفة والعلم والتّعليم ( وهذا تبثّ شكواه ملحّة: ميّ م. الرّيحاني ) وكلّ
البنى التّحتيّة المنتجة للثّقافة في وجه من وجوهها.
وأنا أنتقد هذا الإقبال الإجتماعيّ على الثّقافة هل أعني
انّني ضدّ الثّقافة الشّعبيّة أو ثقافة للرّاي العامّ، إذا صحّ التّعبير. أبدًا.
وأستعير قولة أمين ألبرت الرّيحاني: "لا يمكن أن يبقى المثقّفون طبقة من
الطّبقات الإجتماعيّة. فإمّا يكون الشّعب
برمّته مثقّفًا وإمّا أن يكون ثمّة عاملون في الشّأن الثّقافيّ أو تبقى "طبقة
المثقّفين" عاجزة ـ كما هي الآن ـ عن القيام بمسؤوليّاتها.
تمامًا أنا ضدّ أن تبقى "طبقة المثقّفين"
عاجزة، بل ضدّ أن تبقى طبقة، وأجدني في غير الدّاعين إلى نخبويّة الثّقافة،
وتفرحني إشارة أمين ألبرت الرّيحاني إلى مسؤوليّات على المثقّفين. فالمسألة هنا
بالضبط: أثمّة مسؤوليّات على المثقّفين أم لا؟ بلا تردّد ولا مواربة أنحاز إلى
الشّقّ الأوّل من السّؤال، ولئن كنت أعارض الإقبال على الثّقافة بالصّورة تلك
فلأنّه بذلك يعزّز ويكرّس المثقّفين طبقة اجتماعيّة ويعطّل، تاليًا، إمكان مشاركة
المثقّفين في ترميم الوجدان العامّ. وإنّ ما ينبغي إعادة إعماره أوّلاً هو الرّأي
العامّ إذ حين لا "رأي عامّ" لا
تقوم قائمة ولا يرتفع بنيان. ولست أبدًا مع قولة سعيد تقيّ الدّين: "الرّأي
العامّ. هذا البغل". لعلّ بعض مآسينا في الشّرق، أوفي مجتمعات العالم الثّالث
انّنا ننظر دائمًا إلى "الرّأي العامّ" أنّه بغل. ونساهم في جعله كذلك.
لعلّ سعادتي في ما تكتبه ميّ م. الرّيحاني لا تكمن فقط
في كون مقالاتي حرّكت فيها ردًّا ومساجلة. وأنا سعيد بهذا في أيّ حال بل أكثر في
كونها تأتي من خارج المألوف في الوسط الثّقافيّ وتكتب بداية العارف به وبأحواله،
والأمر يثير استغراب عصام محفوظ ودهشته بل شكّه أيضًا. ولعلّه معذور في استغرابه
ودهشته فالمثقّفون كادوا أن يصيروا "طبقة إجتماعيّة" بكلّ ما تحمله كلمة
طبقة من مواصفات وسمات، طبقة ضئيلة ومحدودة يكاد مقهى "الومبي" يتّسع
لكل المنتمين إليها، وتكاد، هي، تضيق بكلّ من هم خارجه.
على عكس ما تظنّ ميّ م. الرّيحاني أثار توقيعها أكثر من
انطباع عند "متتبّعي الصّفحات الثّقافيّة" وتعدّاهم إلى غير المتتبّعين.
وأهمّيّة ما تكتبه نابعة من جدّيّته وإلمامه أوّلاً، ومن كون الكاتبة من خارج
المتداول ثانيًا، ومن مقالتها التي تهجس بهمّ عامّ، بمشكلات تأنف "طبقة
المثقّفين" منها وتضعها في خانة "التّفاصيل"
(ها أنا ألوم نفسي وإن كنت لم أرم لما تكلّمت سابقًا عن التّفاصيل إلى ما ذهبت الريحاني إليه)، ومن التصاقها، ربّما، بالهموم التي تلحّ عليها.
(ها أنا ألوم نفسي وإن كنت لم أرم لما تكلّمت سابقًا عن التّفاصيل إلى ما ذهبت الريحاني إليه)، ومن التصاقها، ربّما، بالهموم التي تلحّ عليها.
في اعتقادي انّ الشّعار المناسب لهذه "الفترة
الحرجة" كما يسمّيها رياض نجيب الرّيّس ـ هو "إعادة الإعتبار".
إعادة الإعتبار لكلّ شيء، للثّقافة نفسها، للكتابة والنّقد تحديدًا، ولكلّ ما له
علاقة بالهواجس العامّة، وأن تصير الكتابة مساجلة فعليّة في هذه الهواجس. وأيضًا
لردم الهوّة النّاجمة عن الحروب، بين زمنين بيروتيّين، زمن بيروت ما قبل الحرب،
وبيروت ما بعدها، وأجدني هنا ألوم بول شاوول لترفّعه عن كتابة الكثير من الأفكار
الجديرة بالنّقاش التي يردّدها ولا يكتبها لأنّه سبق وفعل ذات فترة، لأنّ
"إعادة الإعتبار" ضروريّة وواجبة إزاء ما نقرأه أحيانًا من قلب للوقائع
وطمس لما جرى. أظنّنا في جاحة إلى إعادة ترداد الكثير من المسلّمات وأن نقرأ من أقلام
عاشت الأوج البيروتيّ بعيدًا عن النّواح والنّوستالجيّا، أن نقرأ من زاوية نقديّة
غير متعصّبة وغير عصبويّة.
هل أنبش أحيانًا بعض ما يدور في المقهى؟ نعم. إنّي أفعل
لأنّ ثمّة هوّة أيضًا ينبغي أن تردم بين كلام المقهى والكتابة وانفصامًا لا يجوز
أن يستمرّ، وحسنًا نفعل إذ نكتب ما يورّط النّاس في القراءة ويقلّص وجود
"طبقة المثقّفين" عسانا نصل يومًا إلى عامّة مثقّفة لا ترى الثّقافة
مظهرًا اجتماعيًّا أو حفلة كوكتيل وحسب.
زاهي وهبي
جريدة "النّهار" الثّلثاء 12 تشرين الأوّل
1993
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق