تغضبين وماذا ينفعك أن لا من يسمع ويجيب؟
أستاذ زاهي وهبي
كلّنا غاضبون،
تختلف الأسباب، ربّما، لكن
الغضب موجود.
هو ليس غضبًا
"ساطعًا"، مع الأسف.
هو ليس غضبًا إيجابيًّا في
كثير من وجوهه. أعرف هذا.
ولكنّه موجود. يملأنا مرارة،
يعبّئنا بشحنات من طاقة مهدورة سدى، لأنّنا لسنا قادرين على تحويلها إلى عمل مثمر،
إلى نتيجة.
كلّنا نشعر بالغضب
لأمر تافه أو لقضيّة
مصيريّة،
لخطأ عابر أو لجريمة لا
تغتفر،
لكلمة أو لفعل،
لنيّة أو لعمل.
كلّنا غاضبون
بعضنا يخجل من غضبه، فلا
يظهره، بل يعالجه ويخفيه.
وبعضنا يرى غضبه قضيّة
خاسرة، فلا يعلنه.
وآخرون يقولون: ماذا ينفع
الغضب وليس هناك من يسمع أو يجيب؟
نعم، أنا أغضب وأنفعل.
والغضب عندي ردّة فعل عفويّة
على كلّ ما أراه وأسمعه، ولا قدرة لي على تغييره.
نعم، أنا أغضب، وقد أكون
سريعة الغضب، ولكن غضبي ليس جرمًا أخبّئه وليس عيبًا أخجل به.
نعم، أنا أغضب، تغضبني
الأمور اليوميّة البسيطة كعجقة السّير، وصمت الهاتف وضجيج مولّدات الكهرباء،
وتغضبني أمور أخرى كذلك.
أغضب عندما أجد النّاس
يتهافتون لشراء كتب "صخرة طانيوس"، وهو أقلّ كتب أمين معلوف أهميّة،
عقدة القصّة قديمة، قرأناها في كتاب فؤاد افرام البستاني "على عهد
الأمير"، تحت عنوان "موت البطريرك". وطانيوس الكشك نسخة معدّلة عن
خليل الكافر عند جبران.
وأغضب لأنّ لم يقل أحد،
علنًا، إنّ جائزة غونكر الأدبيّة هي محاولة فرنسيّة سياسيّة، وإنّ الإستغلال
السّياسيّ لها لن يعطيها القيمة الأدبيّة الّتي كنّا نرجوها ونتمنّاها لأدبائنا.
وأغضب لأنّ الجوائز
العالميّة تغرينا، حين إنّها لا توهب لنا إلاّ عند منعطف سياسيّ مهم. فهل نسينا
إنّ جائزة نوبل للآداب لنجيب محفوظ ترافقت مع مفاوضات الصّلح بين مصر وإسرائيل؟
وها هي الصّحف تروّج للأديب السّوري حنّا مينه، فهل نحن على منعطف سياسيّ آخر؟
أقول هذا الكلام والشّعور
بالذّنب يرافقني. فهل أنا أفعل ما تتّهم الأديبة كوليت خوري العرب بفعله؟ ففي
مقالة لها في مجلّة "المستقبل" تحت عنوان: "حرام تهشيم
القيم"، قالت كوليت خوري: "إذا نبغ في دنيا موسيقانا فنّان حاربناه
واستكبرنا عليه حتّى الهويّة. وإذا بزغت كالشّمس إمرأة مفكّرة ذات شخصيّة قويّة في
مجتمعنا الأعرج المتخلّف... احترنا كيف نشوّهها شكلاً ومضمونًا فنجعل منها تافهة
أو عاهرة".وتنهي الأديبة مقالها صارخة:
"حرام يا ناس
حرام يا أصدقائي
حرام يا عرب".
هل أسيء فعلاً إلى أدباء بلادنا ومثقّفيها حين أشعر بالغضب
تجاه فعل أو تصرّف أراهما في غير محلّهما؟
ألا يغضبك، مثلاً، أن تسمع
إعلاميًّا ناشئًا يقول لفنّانة كبيرة كصباح "شوكنتو قلال العقل"، في ليل
مفتوح على كلّ الأخطاء، ووقت لا ينتبه المسؤول الثّقافيّ في المحطّة التّلفزيونيّة
المعيّنة إنّ هناك فرقًا بين العفويّة وقلّة... الانتباه؟
الا يغضبك، مثلاً، أن تموت
إمرأة من الجوع في بناء مهجور في بحمدون وفي الأسبوع نفسه تقرأ عن طبيب أسنان، شاب
يشتري أسهمًا في مشروع إعادة إعمار بيروت بمبلغ 25 مليون دولار؟
ألا تغضب حين تعلم إنّ
الصّحف أشارت إلى مقاعد فارغة في حفلة فيروز في لندن، حين أنّنا نحلم بحفلة تقيمها
لنا في لبنان؟
ألا تغضب حين تسمع اسكندر
حبش ينصب الأسم بعد حرف الجرّ في حوار تلفزيونيّ، وحين يعتبر عبّاس بيضون نفسه
مهمًّا إلى درجة أن "يستلقي" على كرسيه، وينظر إلى يحيى جابر من فوق
الكتف؟
ألا تغضب حين يرفض الشّعراء
الشّباب التّعرّض لأيّ نقد أو تصنيف، ويقولون ما معناه: نحن نكتب وكفى، وهنا كنت
أتمنّى لو سألهم عبّاس بيضون: لماذا تنشرون ما تكتبونه ما دمتم لا تريدون أن
تسمعوا نقدًا؟
ألا يغضبك قول عبّاس بيضون
في اللّيلة نفسها: هذا كلام مقاه، لا أحد يكتب حقيقة الأمور في الجرائد؟
كلّنا معبّأون بذلك الشّعور
الّذي يدفعنا إلى الإحتجاج والإعتراض. من المهمّ أن نصرخ وإلاّ آلمنا غضبنا
وجرحنا، أن نصرخ بكلمة أو بنظرة، وإلاّ وقف الغضب حاجزًا يحول دون قدرتنا على
الإستمرار.
نعم، أنا أغضب، أغضب على
نفسي المتردّدة الّتي تخجل أحيانًا من فكرة "مختلفة" فلا تجرؤ على
إعلانها، حتّى يفوت أوانها أو يسبقني أحد إليها. خلال الأشهر الماضية، خطر على
بالي أن أكتب رسالة إلى الأستاذ شوقي أبي شقرا أشكره فيها على سماحه بنشر رسائلي،
كنت أريد أقول له ما يقوله النّاس عادة بعد فوات الأوان. وخطرت على بالي هذه
الفكرة بعد إن قرأت الكثير من الكلام منذ رحيل عدد كبير من رجالات الفكر والقضاء
والأدب، وسألت نفسي، هل يعرف هؤلاء الرّاحلون ما يقال عنهم. أمدّ الله في عمر
الأستاذ شوقي، خوفي من سوء الفهم أو خوفي من إثارة القلق عند الأستاذ الكبير دفعني
إلى التّراجع عن الفكرة، فكتب الأستاذ علي شرف (1) حول الفكرة نفسها... وسبقني.
وأغضب من نفسي لأنّي أطرح
أفكارًا تثير الإستغراب والسّخريّة أحيانًا، كأن أطرح على المدرّسين فكرة
المطالبة، لا بزيادة الرّاتب أو تعويض نهاية الخدمة، بل بأن تخوّلهم بطاقة
النّقابة الدّخول إلى المسرح أو السّينما مجّانًا، وأن ينالوا حسمًا عند شراء
الكتب والصّحف والمجلاّت واللّوحات والمنحوتات، فهل تتخيّل كيف كانت ردّة الفعل؟
لن أعتذر عن غضبي، بل أشكرك
لأنّك تقرأ وتجيب، وأعود لأؤكّد إنّ الغضب شعور شرعيّ، قد نسمّيه عتبًا، أو حزنًا،
وفي الحبّ نسمّيه غيرة، ولكّنّه هو هو، ذلك الشّعور الّذي لا يهادن ولا يساوم.
إنّه هنا، في كلّ واحد منّا،
يبقى أن نترك له الفرصة ليجد لغته. وعلى ذكر اللّغة، ما زلت في انتظار رأيك حول
اللّغة في المسرح، وقد تلقي اللّغة الفصحى، المليئة بالأخطاء، مزيدًا من الأضواء،
سمعناها في مسرحيّة "تقاسيم على العنبر"، ليلة الخميس 14 نيسان 1994.
ميّ م. الرّيحاني
جريدة "النّهار" الجمعة 22 نيسان 1994
(1)
"النّهار" ، الأربعاء 23 آذار 1994
* ميّ الرّيحاني إلى زاهي وهبي في بعض مشاهد الثّقافة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق