الاثنين، 12 مارس 2018

أحلم بزمن المساواة ولتركد الحياة ما شاءت - زاهي وهبي - 8 آذار 1994



أحلم بزمن المساواة ولتركد الحياة ما شاءت
        تعود ميّ م. الرّيحاني.
        تعود غاضبة ومنفعلة، لا بأس فالأهمّ انّها تعود من غياب عسى أسبابه كانت خيرًا.
        تعود غاضبة ويبلغ بها الغضب مداه ما لم أعهده فيها سابقًا ولا في رسائلها الخلافيّة المساجلة في شؤون وشجون نتناولها، هنا، في هذه الصّفحة.
          ولمن فاته الأمر، سبق لميّ م. الرّيحاني إن كتبت إليّ مرارًا العامّ الفائت تناقش في كثير من وجهات النّظر، وكنت أوافقها حين أجدني على خطأ وأخالفها حين لا أقتنع. ولم يكن السّجال لي إلاّ أخذًا وردًّا في سبيل إضاءة ما التبس عليّ أو عليها أو لمن يهمّه الأمر.
        مع غبطتي بعودتها من انقطاع، لا أخفي دهشتي من مقدار غضبها وانفعالها، فافقدها الأمر بعض ما في قلمها من ذكاء الرّؤية والتماع الإدراك السّابق في كثير من الأحيان للمعرفة والاكتساب.
        ولئن كانت ميّ م. الرّيحاني على حافّة الإنفجار كما تشير في مقدّمة رسالتها، فهذا لا يردعني عن محاولة تصويب النّقاش في ما بيننا وإعادته إلى سابق عهده وإلى جادّة الصّواب أملاً ببعض الإفادة لنا كلينا ولمن يتابع أو يهتمّ بهذا السّجال.
        أظنّ (وبعض الظّنّ إثم) انّ الرّيحاني فهمت جملتي تلك (عن جمهور الخاصّة والعامّة) على نحو اجتماعيّ محض أو على نحو طبقيّ ما جعلها تشعر بالإهانة إذ أوّلت جملتي على غير معناها. وعلى غير قصدي. ولا أقصد إرضاءها فهذا آخر ما كان يمكن أن يخطر لي أو يتبادر إلى ذهني لحظة الكتابة، أي كتابة، فكيف بالكتابة عن عمل إبداعيّ إنسانيّ كما "فاميليا".
        ولست معنيًّا بكل الإستطرادات الّتي نجمت عن هذا التّأويل الخاطئ والمريع لجملتي تلك، لكنّي أذكّرها فقط بأنّ الزّاوية الأسبوعيّة ليست مكسبًا بل مشقّة، وأنّ الدّعوة لمشاهدة عرض ليست "وجاهة" بل دعوة إلى العمل، وانّ النّاقد ليس قاضيًا أو حكمًا بل صاحب رأي (إعلاميّ أحيانًا كثيرة) يهدف إلى إعانة الأعمال الجادّة على النّهوض والإستمراريّة. ولست أشعر بالحرج من أحد إذا كان هذا المسرح أو ذاك يدعوني إلى عرض افتتاحي أو أكثر.
        هذا في الهامش،
        أمّا في المتن فأجدني شديد الأسف إذ أعيد التّأكيد على جملتي بأنّ هناك خاصّة وعامّة في الإبداع، ولتعذرني سيّدتي فلست آخذ الأمر على نحو اجتماعيّ أو طبقيّ، بل على نحو إبداعيّ محض، ولا أظنّ النّاس سواسية في هذا المجال أو كأسنان المشط، بل هم على مراتب ودرجات، أو لما كان داع لنقول: هذا عبقريّ، وهذا مبدع، وهذا غثّ وهذا سمين، ولكانت الحياة الإبداعيّة مثابة صفحة ماء راكد.
        طبعًا هذا لا يعني إنّني لا أحلم بزمن يتساوى فيه النّاس إبداعًا ولتركد الحياة حينئذ ما شاءت.
        وطبعًا لا أعني الانتماء إلى خاصّة وعامّة إبداعيّة تحدّده بطاقة دعوة إلى عرض افتتاحيّ أو سواه، فالمسائل نسبيّة، وسنجد دائمًا تداخلاً بين الخاصّ والعامّ.
        ومع ذلك أقول إنّ العروض الافتتاحيّة في مسرح جدّيّ وطليعيّ كمسرح بيروت، هي أقرب إلى صفة الخاصّة في العلاقة بالمسرح، من كون المدعويّن هم مسرحيّين ونقّادًا وكتّابًا وأدباء أقدر على التّفاعل مع العمل من الآخرين الّذين لا يضيرهم البتّة ألاّ يكونوا مسرحيّين ونقّادًا لأنّ من غير المعقول أن نطالب كلّ النّاس بأن يكونوا على المستوى نفسه من الاطلاع والمعرفة. وحبّذا لو كان الأمر مستطاعًا.
        أكيد، إنّ المسألة نسبيّة وليست اطلاقيّة، فلا جمهور الافتتاح هو جمهور خاصّة في المطلق ولا جمهور غير الافتتاح هو جمهور عامّة في المطلق، وليست إهانة ألاّ يكون أحدنا من خاصّة المسرح أو من خاصّة الرّسم أو من خاصّة السّباحة أو من خاصّة النّجارة أو من خاصّة كرة القدم، فلكلّ شأن في الحياة خاصّته وعامّته. وليس غريبًا أن تكون خاصّة هذا الشّأن هي نفسها عامّة شأن سواه، وليس الأمر شتيمة أو انتقاصًا لحقّ أحد.
        ولا أجد في هذا الرّاي، رأيي، تناقضًا مع قولي العامّ الماضي "أنا ضدّ أن تبقى طبقة المثقّفين عاجزة، بل ضدّ أن تبقى طبقة". فثمّة فارق كبير بين الإشارة إلى خاصّة إبداعيّة ما، وبين أن يتحوّل المثقّفون إلى طبقة كما هو حالهم اليوم، وهل عليّ أن أتجاهل أنّهم اليوم "طبقة"، وهل هي مسؤوليّة المثقّفين وحدهم في كونهم صاروا طبقة؟ أو المسألة أبعد وأعقد من ذلك ولها علاقة بهذا الإنحدار المريع نحو الإستهلاك والسّرعة في زمن يفقد روحه؟ أطمئنك سيّدتي إنّني على عهدك بي ضدّ بقاء المثقّفين طبقة، وضدّ كلّ منحى طبقيّ، وهذا لا يعني الموافقة أن كلّ النّاس هم على المسافة نفسها من كلّ شؤون الحياة، ومثلك أحمل في داخلي أحلامًا كبيرة بأن يصير الكلّ في الكلّ وتزول كلّ تناقضات الحياة.
        أمّا اللّغة، ولغة المسرح تحديدًا فلها حديث آخر يطول.
زاهي وهبي
جريدة "النّهار" الثّلثاء 8 آذار 1994

ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.