الاثنين، 12 مارس 2018

خاصّة وعامّة... أرفض أن أكون - 8 آذار 1994



خاصّة وعامّة... أرفض أن أكون
استاذ زاهي وهبي
"... هذا ما حدث لجمهور الخاصّة ليلة الافتتاح، وهذا ما حدث لجمهور العامّة في بقيّة العروض...". وكان الحديث عن قدرة العمل الإبداعيّ على تجاوز حواجز اللّغة واللّهجة.
أمران يستحقّان التّوقّف عندهما:
        الأمر الأوّل: (أتلاحظ انّي أكتب بموضوعيّة وترتيب، وكأنّي أحاول أن أضبط أعصابي، فلا أنفجر غاضبة منك، عاتبة عليك، والعتب على قدر المحبّة، وفي الوقت نفسه، متعجّبة من ردّة فعلي هذه...). وأعود إلى الأمر الأوّل لأسألك بكلّ محبّة: كيف تقسّم النّاس إلى عامّة وخاصّة، عفوًا، إلى خاصّة وعامّة، فالدّنيا مقامات؟
        من هو ذاك الذي وزّع مشاهدي المسرح على نوعين؟ وما هو المقياس؟
        وهل مسرح كمسرح بيروت، وعرض مسرحيّة "فاميليا" تقصدهما العامّة؟
        وإذا كانت هذه "العامّة" قصدت هذه المسرحيّة بالذّات، وفهمتها ـ باعترافك ـ ألا يؤهّلها ذلك لتكون من "الخاصّة"؟
        وإذا كنت أنا لم أكتب ديوان شعر، ولا أملك زاوية أسبوعيّة في صحيفة يوميّة، ولا يهرع النّاس إلى لقائي في حفلات الافتتاح. أهذا يعني إنّي لست من "الخاصّة"؟
        وإذا كانت إدارة مسرح بيروت لم تتشرّف بمعرفتي إلاّ كوجه يقول: مساء الخير يا أستاذ محمّد، كيف الحال؟ وإذا لم يخطر ببال هذه الإدارة أن توجّه إليّ دعوة إلى حضور حفلة افتتاح ما، أهذا يعني إنّي لست من "الخاصّة"؟ وفي المقابل، عليّ أن أنتظر عين ناقد تراقبني في الأمسية "العامّة"، كي يقول عنّي هذا النّاقد نفسه إنّي فهمت اللّغة، وفهمت اللّهجة.
        فشكرًا، وألف شكر على هذه الشّهادة.
        أستاذ زاهي،
        بعض الكلام يداعب القلب. فتنبت للحروف أنامل تعصر قلبك بحنان، تداعبه، تجعلك "تصادق قمرًا"، وتحوّل "يدك إلى بئر عميقة".
        وبعض الكلام يصفعك ويهزّك، فتشرئبّ من الأحرف براثن تجرح قلبك. ويهرب الدّم إلى عينيك، وتستيقظ على حقيقة وضعك: "أنت من العامّة".
        الحقّ عليّ، كنت طموحة فاعتقدت إنّي سأشتري مركزًا اجتماعيًّا مرموقًا حين اشتريت بطاقة المسرح! ولكن الأمر يحتاج إلى أكثر على ما يبدو.
        ألا يكفي أنّنا نتحسّر على كثير من العروض الإبداعيّة التي لم يتح لنا رؤيتها لأسباب مادّية؟ ألا يكفي أنّنا نقرأ عن المهرجانات الموسيقيّة والمسرحيّة والعروض السّينمائيّة من دون أن تكون لنا القدرة على مواكبتها كلّها؟
        ألا يكفي أنّنا نشعر بغرابة ملابسنا العاديّة أمام التّرف وآخر صرعات الأزياء الأوروبيّة عند نساء "الطّبقة الخاصّة" ورجالها؟
        ألا يكفي كلّ ذلك، حتّى تصرّ على إعلاننا ـ على الملأ وعلى صفحات الصّحف ـ من عامّة النّاس؟
        ألست أنت القائل: "تمامًا أنا ضد أن تبقى "طبقة المثقّفين" عاجزة، بل ضدّ أن تبقى "طبقة"؟ أم في العامّ الماضي لم تكن "تأهّلت" لمرتبة "الخاصّة من النّاس"، ولم تكن جلست بعد بين كبيرين تحاورهما في الثّقافة وشؤونها، ولم تكن صيدا سمعت صوتك؟
        الامر الثّاني هو تلك اللّغة الّتي تحدّثت عنها والّتي ما عادت مشكلة، على حسب رأيك، بل دعوت إلى "تحرّر المسرح من هاجس اللّغة، بل إلى تحرّر المسرح من اللّغة ذاتها".
        هنا، لن أهاجمك، بل سأخبرك ما لا تسمعه إلاّ إذا جلست في العروض "العامّة". وفي الصّفوف الخلفيّة (لا سمح الله)، سأخبرك ما حصل معي في العرض الّذي كان من المقرّر أن يكون الأخير لمسرحيّة "فاميليا". تلك اللّيلة كادت ان تكون كابوسًا حقيقيًّا لولا روعة العمل الفنّيّ. أحاط بنا جمهور صاخب من تلاميذ الجامعات، الّذين أرسلهم أساتذة المسرح عندهم (سامحهم الله) إلى حضور العمل، وتسبّبوا بضجيج محرج، قبل العرض وخلاله وبعده (ليت السّيّدة بولس وروجيه عسّاف وجلال خوري يطّلعون على هذا الكلام).
        هؤلاء الطّلاّب ـ والمفترض أنّهم معنيّون ـ لا يفهمون اللّغة العربيّة في أبسط مفرداتها. إحداهنّ سألت زميلتها ما معنى "بندقيّة"، وما معنى "حردبّة". والتّرجمة كانت طبعًا باللّغة الفرنسيّة. ثمّ انصرف الطّلاّب ـ حين اكتشفوا انّ العرض باللّهجة التّونسيّة ـ إلى أحاديث خاصّة وحميمة ونكات بذيئة. وتصفيق في غير أوانه، وعندما صفّقنا لإداء رائع تساءلوا: "شو فهموا حتّى عم بيزقفوا؟" وهذا يعني إنّ اللّغة هي الوسيلة والهدف (إسأل زياد الرّحباني عن أغنية عالسّنسول). ولو صمت هؤلاء الطّلاّب وتمتّعوا بالعرض لقلنا: لم تقف اللّغة حاجزًا، إلاّ أنّهم لم يسمعوا ولم يروا ولا تركوا أحدًا يسمع ويرى. والمصيبة انّ هؤلاء سيصيرون غدًا مسرحيّين طليعيّين، وسيكتب عنهم النّقّاد لأنّهم من الخاصّة، وسيدعون إلى حفلات الافتتاح، ولن يضطرّوا إلى "الزّعبرة". كما حدث ليلة الأربعاء، حين دخل العشرات منهم بالبطاقات نفسها وتسبّبوا بإرباك المسؤولين عن المسرح، وبتأخير بدء العرض.
        أمّا عند النّهاية، فخرج هؤلاء المشاغبون وأحاطوا بالمخرج يهنّئونه، ويمارسون التّمثيل على الطّبيعة، ونجحت المحاولة والتمّ شمل "الطّبقة الخاصّة"، فانسحبنا نحن خارجين لأنّ لا مكان لنا.
        أنا لا أعاني عقدة نقص تجاه أحد ولا أنتظر بطاقة دعوة من أحد، ولا أبحث عن شهرة أو لفت انتباه ولذلك يمكنك ألا تنشر رسالتي. ولا يهمّني أن أكون مع الخاصّة في أمسيّة واحدة، فأنا أعرف هؤلاء. وأعرف كيف يقرأون بعضهم لبعضهم، وكيف يكتبون بعضهم عن بعضهم، وكيف يشاهدون بعضهم عروض بعضهم، وكيف يحكمون على الأعمال بعضهم على البعض.
        ولكنّي أرفض أن يضعني أحدهم، مهما تكن شهرته، في خانة ما، مهما تكن مرتبتها.
        أرفض أن أكون من العالم الثّالث، لأنّ التّسمية نسبيّة، ولأنّ التّسميّة تحمل أبعادًا محقّرة، ولأنّي سُمّيت كذلك بادّعاء من يريد إقناعي بذلك.
        وأرفض أن أكون من "العامّة"، لا لأنّ العامّة "حرف ساقط"، بل لأنّ هناك من وضع نفسه في مرتبة تنظر إلى نفسها على أنّها خاصّة، ووضعني في مرتبة دنيا يراها هو "عامّة".
        ولأنّي أرفض، كان لا بدّ من إعلامك... وشكرًا.
                                                                                 ميّ م. الرّيحاني
(الاسم المستعار لماري القصّيفي)
جريدة "النّهار" الثّلثاء 8 آذار 1994
* ميّ م. الرّيحاني تعود غاضبة ومنفعلة تساجل زاهي وهبي في بعض ما يكتبه، وتردّ هنا على جملة في مقالته عن المسرحيّة التّونسيّة "فاميليا".
              

ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.