العلاقة بالمبدع والتّغيّرات التي تطرأ
عند نهاية العرض المسرحيّ، اقنعت زملائي الطّلاّب
بالتّأخر في الخروج، كي يغادر الحاضرون، لعلّنا نحظى بفرصة محادثة الممثّلين
وتهنئتهم. كنت مملوءة بحماسة طفوليّة، وبإثارة طاغية عطّلت المنطق. وكلّ ذلك لأنّي
قد أستطيع محادثة الممثّل ـ البطل.
كنت دائمًا ـ ولا أزال ـ مسحورة بالمسرح، بهذا العالم
العجائبيّ الشّافي.
كنت ـ وما عدت ـ أعتقد أنّ الفنّان العظيم، على خشبة
المسرح، عظيم حقيقيّ حتّى لو عاد إلى عالمنا، وأقنعت الّذين معي بهذا الوهم.
ووقفنا وانتظرنا، وخرج البطل، عابس الوجه، محوطًا بالمقرّبين، ينظر إلينا، نحن
المتأخّرين عن الرّحيل ويعقد حاجبيه استغرابًا. وإذ خانني الكلام، صفّقت... نعم
صفّقت كالمراهقين الّذين لا يعرفون ماذا يفعلون للتّعبير عن انفعالهم وحماستهم.
ولكن الممثّل هرع إلى سيّارته ساخرًا ما إن حاولنا محادثته.
مراهقة؟ ربّما
رومانسيّة؟ ربّما
ولكنّي هكذا، عندما يتعلّق الأمر بالمبدعين. يسحرني
عطاؤهم، أقف مشدوهة أمام نتاجهم. ومنذ تلك اللّيلة، صرت أخاف الإقتراب منهم لئلاّ
يصدمني تصرّفهم فأبتعد عن أعمالهم. فلماذا أريد التّعرّف إلى "الشّخص" وهناك
احتمال، ولو ضئيلاً، أن أخسر المبدع الذي جعلني معجبة به.
لهذا، رفضت، متأسّفة، أن أقترب مرّة من الياس خوري حين
أراد أحد الأصدقاء أن يقدّمني إليه. خفت أن يبدر منّي ما يلصق بذاكرتي وأنا أقرأ
مؤلفاته، فينتهي السّحر وتفقد كتبه هالتها.
وعندما أصرّ أصدقاء آخرون على تقديمي إلى أحد الفنّانين،
وهو ثوريّ متقاعد، فوجئت حين لم يجد هذا الفنّان ما يقوله لفتاة،لا شكّ انّها لفتت
نظره بحماستها في حفلاته، وبمثابرتها على حضور أمسياته الغنائيّة، سوى تلك
العبارة: "قربي حتّى بوسك" (إقتربي حتّى أقبّلك) وقبل أن أعي ما يقوله
كان الفنّان الثّائر طبع قبلة على خدّي، واختفى قبل أن أقول كلمة ممّا كنت أريد
قوله عن فنّه وموسيقاه. يبدو أنّه مقتنع إنّ كلّ من يحضرن حفلاته معجبات بشخصة،
وربّما لأنّهنّ على رأيه، لا يجدن استعمال عقولهنّ.
أروي هذه الحكايات الطّريفة كي أطمئن الأستاذ عصام محفوظ
إلى عدم انتمائي إلى طبقة المثقّفين المحيطة به. وشكوك الأستاذ محفوظ مفهومة
ومبرّرة وإن كانت تسيء إليه بشكل لا أرضاه له. فأنا أرفض أن تكون كتاباته لأشخاص
معدودين. فهل يكتب هو لنزيه خاطر فقط؟ وهل تزور مي منسى المعارض لتسبق لور غريّب ؟
وهل يكتب بلال حبيز ليثير أعصاب زاهي وهبي؟
إذا كان الأمر كذلك، فالوضع الثّقافيّ في أزمة أكبر ممّا
يتصوّره النّقّاد والمحلّلون، وإذا كان محفوظ يؤمن بقولة سعيد تقي الدّين عن الرأي
العامّ، فأنا أحفظ للأديب الرّاحل قولاً آخر: كلّ مواطن خفير.
لست سوى قارئة، وإذا كنت ذكرت تفاصيل بدت للبعض خاصّة
"بطبقة إجتماعيّة" معيّنة، فذلك، لأنّي، وبكلّ بساطة، واحدة من الّذين
يفترض بهم أن يؤلّفوا قوّة ضاغطة ـ نحو الأعلى إذا جاز التّعبير ـ ومؤثّرة، تقول
للمبدعين: نحن هنا.
فليطمئنّ المبدعون، لست جاسوسة بينهم، ولو كنت من
المقرّبين لوفّرت عن نفسي عناء البحث في كتبهم ومقالاتهم، وتبويب مواضيعها
والمقارنة بينها. وما أدراك ماذا تجد حين تقارن بين قديم الكتابة وجديدها؟
لكن المبدعين عندنا يصدّقون انّ الإنسان سميّ هكذا لأنّه
ينسى (على قولة عمّك أيّوب)، ويشكرون ربّهم على ذلك.
"تكتب بداية العارف به وبأحواله" يقول زاهي
وهبة. هذا صحيح "لا أريد من الحبّ غير البداية" يقول محمود درويش.
لا أريد من هذه العلاقة بالوسط الثّقافي سوى أن أبقى على
حدود الهديّة. أحاول أن أرسم ألف صورة وصورة لما في داخلها، دون أن أقع في فخّ
محاولة التّأكّد.
ولكن كيف تهرب من واقع يفرض نفسه، إذ فجأة "يأتيك
بالأخبار من لم تزوّد". وتقع عيناك صدفة على قولة هنا، ومقالة هناك، تفاجئك
محتوياتهما المتناقضة مع ما كنت تعتقده.
أمّا المفاجأة التي انتطرتني هذا السبوع فكانت السّبت 22
تشرين الأوّل، حين اكتشفت في الياس خوري شخصيّتين:
أحداهما ـ عبر مذكّرات أيّوب ـ مملوء صاحبها بالمرارة
والألم بحمل هموم الوطن وينوء تحت المتاعب. يتذكّر وصيّة "إنعام" منذ
عهد الزّمالة في "السّفير"، يوم قالت له: "أكتب قصّتي".
"هي لا تعرف أنّها كسرت كلّ الكتابة".
الياس خوري هذا، الحزين، الخجول من قلمه وورقته،
المنكسرة عيناه في الأرضلأنّه ما عاد يجرؤ "على النّظر إلى عيون المرأة التي
تنتظر"، الياس خوري هذا، أكاد أهرع إليه بعد المسرحيّة لأقول له: دعني أشاركك
في حزنك، وأتذكّر... أتذكّر أنّه "مبدع"، وقد يفاجئني بما لا انتظره.
أمّا الشّخصيّة الثّانية التي اكتشفتها فيه يوم السّبت،
فهي شخصيّة الرّجل الرّجل، الذي يعجب بالجمال الأنثويّ ويقدّر صاحبته، ويتعاطف مع
ممثّلة "مدهشة وغنيّة ومتعدّدة" المواهب، ويتألّم لوحدتها على المسرح مع
إنّها محوطة بالرّاقصين والرّاقصات (لماذا الإنتحار يا نابغة؟)، يتمنّى لو كانت له
القدرة "لفكّ الحصار عن روحها وجسدها"، "هذه الطّاقة المتوهّجة
بالحياة التي لا تنطفئ" تجد نفسها في "حكاية ساذجة". ولا تحتاج لكي
تبقى على توهّجها إلاّ إلى كاتب ضليع.
وما على مهندسي بيروت "الجديدة" سوى تغيير
خرائط المدينة المدمّرة، وإعادة رسمها لتربط عين المريسة بشارع الحمراء، وإن لم
يكن في الأمر جمال هندسيّ. و"على الأقلّ" سيكون فيه إبداع مسرحيّ وتوهّج
حضاريّ مشعّ. أليس هذا ما نريده من ذاكرة بيروت الثّقافيّة؟
في مسرح بيروت، كنت، ليلة السّبت، محوطة بمزيج عجيب من
المشاهدين. ففي حين إنّ إحداهنّ لم تعرف من هو فوزي القاوقجي، وتحاول أن تحزر من
هي السّيّدة التي طردت أهالي المخطوفين، كان ذلك الشّاب الجالس إلى يميني يكتشف من
هو وزير الدّاخليّة الذي أراد إعادة تصميم بيروت، ويعلّق ـ ذلك الشّاب نفسه ـ
بذكاء متسائلاً: ما علاقة لينين وستالين والحزب الشّيوعيّ بالله؟
وبعد إن سمعت أحدهم يعترض على مأساويّة العمل
وسوداويّته، قال آخر أنّه سيكتب مقالة حول هذه المسرحيّة.
بين هذه الأصوات المتناقضة، خطرت على بالي فكرة أزعجتني
ورافقتني طوال مدّة العمل: ماذا لو كان الخاطف موجودًا معنا. حاولت أن أبحث عن
رأسه لأراه يتأثّر بما يراه، ويصفّق موافقًا، ويقف احترامًا للنّشيد الوطنيّ. وبعد
المسرحيّة، سيخرج ليصافح المخرج مهنّئًا ويعود إلى منزله مطمئنًّا. وسترتجف عظام
نايفه حماده في قبرها. وستضطرب يد روجيه عسّاف دون أن يعرف السّبب: إذ صافح الخاطف الذي ضاع في عجقة النّاس. وقد يصافحه معجب آخر ثمّ
يذهب ويوصي بوقف عرض المسرحيّة، وآخر يستعجل التّهنئة والذّهاب كي ينام باكرًا، عنده
في الغد موعد جديد مع "الجرّافات". قال لي موظّف شاب في إحدى المكتبات:
"أيّام الحرب كانت أحلى، يمكن الأولاد الآن سيفرحون بسلام المستقبل، أمّا نحن
فتعوّدنا على الحرب".
لا أدري إلى أيّ حدّ يمكن لنا أن نوافق على كلام هذا
الشّاب، وإلى أيّ حدّ نقبل أن نتعايش مع القتل والإجرام والبشاعة. ولكن الحرب لم
تحرمنا على الأقلّ فرصة اكتشاف المجرم من البريء. أمّا اليوم فالمجرمون ذوو أقنعة
مختلفة ولا مجال لاكتشافهم. فقد يكونون إعلاميّين في مؤسّسة ما، أو مهندسين لإعادة
الإعمار أو راعين لأعمال فنّيّة، وقد يكونون مفكّرين ومخطّطين لمستقبل أفضل. وهنا
تضع الحرب قفازًا أبيض حريريًّا فلا يرى أحد بشاعة اليد المختبئة.
العلاقة بين المبدع والمتلقّي، والتّغيرات التي تطرأ على
المبدع وتبدّل انتماءاته كلّما تغيّر الهواء في بلد ما، أو كلّما ارتفع عدد
متتبّعي انتاجه الأدبيّ أو الفنّيّ، وترجمت أعماله أو دعي إلى عواصم. و"إعادة
الاعتبار" للقارئ النّاقد الذي في إمكانه أن يناقش بقدر ما يورّط في القراءة،
كلّها مواضيع قد تحتاج المرحلة الثّقافيّة الرّاهنة إلى كثير من الكلام حولها.
ميّ م. الرّيحاني
جريدة "النّهار" الثّلثاء 26 تشرين الأوّل
1993
*الرّسالة الثّالثة إلى زاهي وهبي في المساجلة نفسها وفي
أحوال الثّقافة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق