مصروعة، عوّاد، يحيى جابر
الزّواج المختلط، الحرب، الاقتصاد
لبنان بلد يضم سبع عشرة طائفة، ومع ذلك قليلة هي
الكتابات الأدبيّة الّتي عالجت موضوع العلاقات الاجتماعيّة بين هذه الطّوائف
بعيدًا عن الإنشاء والشّعر ولغة التّعايش، ونادرًا نجد كتابًا يعالج وضع الزّواج
بين أبناء هذه الطّوائف. والنّصّ المسرحيّ الّذي كتبه يحيى جابر: "إبتسم أنت
لبناني"، يعيد، ربّما، طرح السّؤال بطريقة أخرى. فجابر يرى المشكلة ما عادت
طائفيّة بقدر ما هي إقتصاديّة، ولو أتيح لبطليّ مسرحيّته وضع إجتماعيّ مريح لما
انتهى بهما الأمر إلى الانفصال.
عودة قليلًا إلى الوراء، نجد إنّ الانفصال كان نهاية كلّ
رواية تناولت علاقة بين اثنين ينتميان إلى طائفتين.
ومن المفيد التّوقّف عند اثنتين من الرّوايات تناولتا
هذا الموضوع هما رواية "ضحيّتان" لجورج مصروعة كتبها سنة 1942 حين كان
في معتقل "الميّة والميّة"، والثّانية رواية "طواحين بيروت" الّتي كتبها توفيق
يوسف عوّاد حين كان سفيرًا للبنان في طوكيو سنة 1969.
في "ضحيّتان" وداد المسيحيّة الجبليّة وخالد
المسلم البيروتيّ يتحابّان ويقرّران الزّواج.
وداد نشأت في أسرة مارونيّة عريقة مع أخيها حبيب، وكان
أبوها عين أعيان قريته الصّغيرة، ينعم بثقة النّاس ومحبّتهم واحترامهم، لما اشتهر
به من الاستقامة ومتانة الأخلاق" (ص15)، ولكن هذه الثّقة لم تصل إلى حدّ
يوافق معه النّاس على زواج ابنته بمسلم.
خال وداد الخوري حاضر دائمًا، تستنجد به أخته عند كلّ
أمر طارئ، وهو يتوسّط "لدى سيّدنا البطريرك" (ص16) ليجد عملًا حكوميًّا
لحبيب ابن أخته، ويقاطع العائلة حين يتقرّر زواج وداد وخالد.
وفي المقابل نرى أبا خالد "من التّجّار المعروفين
في بيروت، اشتهر بالحكمة والاستقامة حتّى أصبح بين التّجّار المرجع الأخير لفضّ
المشكلات وإرسال القول الفصل في معضلات الأمور" (ص42).
وأبو خالد لم يكن "قاسيًا فظّ الطّباع، بل كان
رحيمًا يملأ الحنان بردتيه، ولكن كان غيورًا على سمعته في بيئته وبين أصدقائه
الكثر، فهو يؤثر كبت نفسه والتّنازل عن حقوقه، حتّى لو ظلم أبناءه، يؤثر الألم في
بيته على أن تناله ألسنة النّاس بسوء، أو أن تلوك إسمه أفواه المتشدّقين. لا شيء
في نظره يضارع السّمعة الحسنة في هذه الحياة. فلو اضطرّ أن يضحّي بكلّ شيء في سبيل
المحافظة على هذه السّمعة، لما تردّد لحظة في الإقدام على التّضحية" (ص45).
هذا الوالد يقع تحت سيطرة أخيه الشّيخ، رجل الدّين
المتزمّت، هناك الخوري وهنا الشّيخ يلقيان بظلّهما فوق العائلتين، ويفرضان على
أفرادها قيود المجتمع.
أبو خالد يوافق بعد معارضة عابرة على زواج ابنه بوداد،
ولكنّه يرفض، وبإصرار، زواج ابنته جمال وحبيب أخي وداد، هذا الأمر هو الّذي سيبعد
وداد عن حبيبها لأنّها ترفض أن تفعل ما لا تسمح عائلة خطيبها لابنتها أن تفعله،
كما ترفض بناء سعادتها على حساب سعادة أخيها.
يفترق الحبيبان، وفي قلب كلّ منهما حسرة ألم، تمرض وداد وتموت
ويترك خالد لبنان وينعزل في قرية من قرى البرازيل، ويقع الإثنان ضحيّة الجهل
والتّعصّب.
في هذه الرّواية اسم خالد يفضح مذهبه، تسأل وداد أخاها
بعد إن فرح لمعرفته بأنّها في حالة حبّ: "ألا تريد أن تعرف قبل كلّ شيء اسم
الرّجل الّذي أحبّه؟".
-
وماذا يهمّني اسمه؟ يكفي أن تخبريني أنّه شهم، كريم
الخلق. بل يكفي أن تقولي: "أحبّه" لأعتقد إنّ فيه جميع الصّفات
الطّيّبة.
-
لعلّ ذكر اسمه يغيّر رأيك، يا حبيب، فهذا الإسم يدلّك
على أشياء كثيرة لم تخطر في بالك بعد، ويوقظ التّنبّه لصعوبات مهمّة ويذكّرك بأنّ
لنا عادات وتقاليد لا يدوسها غير السّفهاء المارقين (ص63).
الأخ هنا، حبيب، يلعب دورًا مساعدًا، إنّه شابّ متمرّد
الذّهن يقف إلى جانب أخته ويساعدها في حلمها بالزّواج بمن تحبّ، بل يواجه والده
ويقنعه ويواجه سكّان القرية ويزرع أفكار التّحرّر والوعي بينهم، ويرغب في الزّواج
بأخت صهره العتيد، جمال.
في المقابل، نرى جابر أخا تميمة، بطلة "طواحين
بيروت" عدوّها الأوّل وقاتل صديقتها العزيزة ماري. هذا الرّجل يدّعي المحافظة
على الشّرف والدّين، ولكنّه لا يتردّد في سرقة والده ومعاشرة المومسات وإدمان
المخدّرات، والاعتداء على أخته من أبيه المقيم في أفريقيا.
وكذلك نرى "طوني" في مسرحيّة "ابتسم، أنت
لبنانيّ"، يقول لروز، أخته الّتي تريد الزّواج بمسلم:
"شوفي أنا خيّك طوني من هلّق بقلّك. لا أختي ولا
بعرفك يلّلا بكرا بتصيري الحجّة روز" (ص9 – مجلّة النّاقد العدد الخامس
والسّبعون، أيلول 94).
أليست هذه المخاوف نفسها أقلقت والد وداد في
"ضحيّتان" فقال: "فكّري بكلّ هذا يا وداد. وفكّري أيضًا بأيّامك المقبلة.
وبالبيئة الّتي ستذهبين إليها وتصبحين من أهلها. ولما ينتظرك فيها من عادات غير
عاداتك. وحياة لا تعلمين من خفاياها شيئًا" (ص75).
أليس مريعًا هذا الجهل "لحياة لا نعلم من خفاياها
شيئًا" وكأنّنا لا نعيش جنبًا إلى جنب في وطن التّعايش هذا؟
إنّ هذه الأعمال الأدبيّة اختارت عمدًا أبطالها من
المثقّفين الجامعيّين لمواجهة الحالة الطّائفيّة. ففي "ضحيّتان" وداد المسيحيّة
المارونيّة وخالد المسلم البيروتيّ يدرسان الطّبّ. وفي "طواحين بيروت"،
هاني الرّاعي المسيحيّ المارونيّ يدرس الهندسة في جامعة القدّيس يوسف وتميمة نصّور
الشّيعيّة الجنوبيّة طالبة جامعيّة أيضًا، أمّا روز بطلة "إبتسم، أنت لبنانيّ"
المسيحيّة، المارونيّة على ما بدا لي، فتعمل في حقل التّرجمة وزوجها، عبدالله،
الشّيعيّ الجنوبيّ صحافيّ.
هؤلاء المثقّفون لم تنفعهم ثقافتهم في مواجهة تحدّيات
المجتمع الدّينيّة والحياتيّة فانكسروا أمامها، فكيف الحال مع طبقات المجتمع
الأقلّ ثقافة ووعيًا؟
وإذا أخذنا هذه النّصوص بحسب تسلسلها الزّمنيّ، نرى
تطوّرًا تصاعديًّا في معالجة الحالة الطّائفيّة. ففي "ضحيّتان" لم يستطع
البطلان أن يحوّلا حبّهما الّذي عجز عن مواجهة التّحدّيات إلى عمل مثمر، فالنّهاية
كانت فشلًا على أكثر من صعيد، لأنّ هذه الطّاقة على الحبّ لم تتحوّل إلى إنتاج
إيجابيّ على صعيد آخر، فالبطلة ماتت من المرض العضال، والبطل ترك الوطن إلى مجاهل
البرازيل، مرخيًا شعر رأسه ولحيته.
في "طواحين بيروت" لم ينجح الحبّ في مواجهة
التّحدّيات أيضًا. ولكنّه تحوّل إلى مجال عطاء آخر، فإنّ تميمة التحقت بالمقاومة
الفلسطينيّة، تعمل في سبيل قضية آمنت بها، قالت لهاني في رسالتها الأخيرة:
"سأحارب تحت كلّ سماء ضدّ كلّ الشّرائع والتّقاليد الّتي ارتضاها المجتمع
وأطعنها بيدي" (ص269). ومنذ اللّحظة الّتي انطلقت فيها تميمة إلى مهمّتها خرس
اسم تميمة نصّور، لأنّ شخصًا آخر سيولد وهو إنسان لا يقدر على تصوّر النّهاية
السّلبيّة، بل يريد كتابة نهاية أخرى مختلفة وأكثر إشراقًا.
أمّا هاني فانطلق مشاركًا في التّظاهرات الّتي ملأت
شوارع بيروت تطالب بالسّلاح لمحاربة إسرائيل، و"شقّ لنفسه بين الجموع وقد
شرعوا بمسيرتهم، يدور بينهم في كلّ ناحية باحثًا عن أصحابه. ولاح له أحمد عدنان
فناداه، ثمّ لميا شارون، وقفز الثّلاثة إلى الفيات مندفعين في الطّريق الفرعيّة
إلى قلب المدينة المشتعل" (ص267).
نصّ يحيى جابر مختلف، فبطلاه أوّلًا تحدّيا كلّ
الصّعوبات الّتي واجهت أبطال الرّوايتين السّابقتين، ثمّ عاشا الحرب الّتي أنذر
توفيق يوسف عوّاد بوقوعها، وتزوّج عبدالله الشّيعيّ روز المسيحيّة. وهذا ما لم
يستطعه الأبطال الآخرون. ولكن هذا الزّواج لم يصمد أمام تحدّيات من نوع آخر.
"عبده (بهدوء وجدّيّة): روز... أنا بحبّك.
روز: عن جدّ؟ صرلك زمان ما قلتها.
عبده: بحبّك أكثر لمّا بقبض المعاش كامل.
روز: ليه ما بتنسى المصاري وإنت عم تحبني.
عبده: لمّا بكون مهبّر، منتوف، بحسّ كلّ الرّجال أحسن
منّي، بشكّ بكلّ شي، بشكّ فيكِ... بغار"(ص15- النّاقد).
المشكلة الآن إذن اقتصاديّة، تتفاقم رويدًا رويدًا،
وتجبر الزّوجين على التّخلّي عن الجنين الّذي حملته روز لأن لا مكان له في الغرفة
الصّغيرة، بيتهما الضّيّق في "بناية شقق مفروشة يسكنها مستأجرون ومهجّرون وتقع
في شارع الحمراء في مدينة بيروت" (ص4).
ولكن، هل تغيب الطّائفيّة فعلًا عن أجواء هذا المنزل؟
صحيح عبده (عبدالله) يستنكر اتّهام روز له بأنّه طائفيّ ويسألها: "أنت مصدّقة
إنّو هيدا بلد طائفيّ؟
روز: لكان شو؟
عبده: يا غشيمة... ثلاث ارباع الإسلام بالبلد أصلن نصارى
وثلاث ارباع النّصارى أصلن مسلمين".
ويبدأ عبدالله بذكر العائلات من جذور دينيّة مختلفة عن
حاضرها. ولكن عندما يبدأ الشّجار بين الزّوجين ماذا يحصل؟
"عبده: قايلك ألف مرّة، بكره الأعياد وساعتها، بغبّ على قلبي.
إنّو على شو هالفرح؟
روز: مبيّن بعيد الفطر بتطلع ع الضّيعة ويتنعجق بالمعمول
والسّنيورة.
عبده: اتركي السّنيورة عا جنب. بطلع عالضّيعة لأقرأ
الفاتحة على روح إمّي وبيّي.
روز: وبتسحبني معك.
عبده: يا ما طالع ع نويل عند أختك عا برمّانا!
روز: أختي أرملة لحالها مع ولادها.
عبده: آخر مرّة عملتوني بابا نويل ونزلتوني بالدّاخون
وكسرت إجري وعالفصح نفس المعمولات، وكمان يلّلا يا عبدالله فقّش بهالبيض فقّش.
روز: ما إنتو بتفقشو حيدر.
عبده: ما تجيبي سيرة حيدر... قصّرت بشي عيد؟ إبن أختك
لمّا عمّدو ما قبلتِ إلّا بلاك وصليب مدهّب... الله يحرسه.
روز: إبن خيّك جبنالو سنسال ما شاء الله لمّا
طهّروه"(ص16).
إذن إنّ تفاقم المشاكل الإقتصاديّة يدفع الزّوجين إلى
الشّجار "القلّة بتولّد النقار"، ومن جملة ما يقوله الزّوجان هذا الحديث
المليء بالدّلالات الدّينيّة، وهما العلمانيّان اللّذان تزوّجا مدنيًّا في قبرص:
"أبو عبده: يا حجّة قومي شوفي إبنك عبده. بدّو ياخد وحدي من أهل الذّمّة ومش
بس ما أسلمها رايح فيها عا قبرص، لا إبني ولا بعرفو"(ص9).
ولكن يحيى جابر يعود في آخر النّصّ إلى إنّ السّبب اقتصاديّ حين تعلن روز بعد قرار الإنفصال: "وأنا بحبّك... بس الحبّ بدّو
مطرح"(ص24). ونحن نسأل: ما الّذي منع عبدالله من الإقامة في الضّاحيّة
الجنوبيّة لبيروت، أليس خوفه على زوجته المسيحيّة؟ وما الّذي منعه من الإقامة في
الأشرفيّة. أليست لهجته الجنوبيّة؟ أوليس خوفه من الوضع الطّائفيّ المتأزّم هو
الّذي منعه من الإقامة في عاليه؟ ما الحلّ إذن؟ في أن يعود عبدالله إلى الجنوب.
ولكنّها عودة مختلفة عن عودة تميمة نصّور في "طواحين بيروت" إنّها عودة
الإخوة اليتامى، في حين تعود روز إلى أختها الأرملة، وكأنّهما يقولان: ليس لنا
إلّا عائلاتنا نعود إلى حضنها بعدما خرجنا منها في محاولة للتّحرّر من ضغوطها.
في العدد الصّادر في 15 كانون الأوّل 1968 نشرت جريدة
"لوريان" خلاصة التّحقيق الّذي قامت به مجلّة "اوثلوك" في
كلّيّات الجامعة الأميركيّة، حين طرحت هذين السّؤالين على الطّلّاب:
-
هل أنت مع الزّواج أو ضدّه بين أبناء الطّوائف المختلفة؟
-
هل أنت مع الزّواج المدنيّ أو ضدّه (طواحين بيروت،
ص109).
وأذكر، في مرحلة من مراحل الحرب اللّبنانيّة إنّ إحدى
الإذاعات أجرت استفتاء مماثلًا، وسألت طلّابًا جامعيّين عن هذا الموضوع. سئلت إحدى
الفتيات عن رأيها فاستنكرت وصاحت إنّها لا تقبل، هي الشّيعيّة، بالزّواج برجل
سنّي، وراحت تعدّد الأسباب الشّرعيّة والدّينيّة الّتي تحرم ذلك. هذه الفتاة ترفض
الزّواج برجل ذي مذهب غير مذهبها، فكيف يخطر على بالها إنّ السّؤال هو عن الزّواج
بطائفة أخرى لا مذهب آخر؟
إنّ النّصوص الأدبيّة اتّفقت على أنّ هذا الزّواج مصيره
الفشل، وإذا كان الأديب هو أكثر من مؤرّخ لأحداث واقعيّة، إذا كان الأديب رؤيويًّا
كما يقال عنه، فهل هذا يعني أنّ الزّواج بين أبناء الطّوائف المختلفة ما زال
مغامرة وخيمة العواقب، لا يجوز الخوض فيها بعد؟ أو نصّ يحيى جابر
"يبشّرنا" بأنّنا – وإن تخطّينا عقبة الطّائفيّة – لم نحلّ كلّ مشاكلنا،
والأزمة الاقتصاديّة لا تقلّ أذى وإساءة إلى كرامة الإنسان. وإذا كانت الأولى تضع
المجتمع في خانات متجاورة قد لا يضغط بعضها على بعض، فالثّانية تقسم المجتمع طبقات
يعلو بعضها أكتاف بعض ويضغط عليها ويولّد الكثير من الظّلم والحرمان.
وهل كتب علينا ألا نخلص من مشكلة حجر عثرة أمام السّعادة
والحبّ، حتّى نقع في مشاكل أخرى تصيبنا في كرامتنا ومصير أولادنا، أو الأدب لا يرى
في حياتنا إلّا الجانب السّيئ ولا ينقل إلينا إلّا صور الفشل والتّخاذل؟
ميّ م. الرّيحاني
(الاسم المستعار لماري القصّيفي)
جريدة "النّهار" الأربعاء 19 تمّوز 1995