السبت، 24 نوفمبر 2018

رشيد الضّعيف إلى كواباتا: إلى أين يصل الأمر الذّاتيّ؟ (1995)



رشيد الضّعيف إلى كواباتا: إلى أين يصل الأمر الذّاتيّ؟
يقول رشيد الضّعيف في الصّفحة 184 من كتابه: "عزيزي السّيّد كواباتا". (1): "لماذا أبدو كأنّني بريء زجّ به في غابة من الدّم والظّلم والتّدمير؟
ألأنّ الاتّحاد السّوفياتي انهار، واختفى أفق الأحزاب الشّيوعيّة".
هل كان علينا أن ننتظر ذاك الانهيار واختفاء ذلك الأفق حتّى نقرأ كتابًا لرشيد الضّعيف عن رشيد الضّعيف؟ سؤال مفروض على من يقرأ هذه السّيرة الذّاتيّة في رسالة طويلة إلى السّيّد ياسوناري كواباتا (نال جائزة نوبل للآداب في 1968).
لا شكّ في إنّ هذا التّغير في النّظام العالميّ الجديد يلف بقسوة وقوّة جيلًا كاملًا من الأدباء والفنّانين، وخاصّة بعد أن وجد هؤلاء أنفسهم أمام مشكلات معلّقة لم تجد لها حلولًا بعد. ولذلك بدأنا نقع على كتابات عديدة عن هذه المرحلة من التّجارب الحزبيّة، وفيها محاولة لفهم ما حدث كما فيها الكثير من النّقد الذّاتيّ. والأكيد إنّ رشيد الضّعيف وضع ـ للمرّة الأولى ربّما ـ أمام المرآة الّتي تعكس صورته وحيدًا، دون خلفيّة اجتماعيّة وعاد إلى هذا المفرد وجوده كإنسان بمعزل عن الدّور الحزبيّ الّذي يقوم به.
يقول الكاتب في الصّفحة 151 عن لسان من كان مثاله الأعلى في الحزب: "إنّه يلزمنا وقت طويل بعد، لنستطيع تصفية حساباتنا مع وعينا البورجوازي الصّغير. قالها بالجمع، لأنّ الفرد ليس شيئًا يذكر، ليس سوى شبكة من العلاقات الاجتماعيّة".
نعم، هذا الفرد لم يكن شيئًا يذكر، ولكن اللّقاء الّذي تمّ صدفة في شارع الحمراء، بين رشيد الضّعيف وهذا المناضل السّابق سيغيّر المقولة: "كان يسير رافعًا رأسه، قليلًا، ينظر إلى البعيد، يمسك بيديه الاثنين سبحة على مستوى أعلى بطنه. وقامته تستقيم على رغم كرش صغير، وشاربه أكثر سوادًا من شعر رأسه الّذي ابيضّ كلّه. ولحية محلوقة بتأنٍّ فائق.
كان لحظتها بالتّأكيد لا يزال خارجًا من عند الحلّاق، وأشيك ما فيه بدلته... بدلة ما زالت خارجة من المصبغة، مكويّة لمناسبة نادرة.
ويبتسم.
كأنّ شيئًا لم يكن.
يبتسم خفيفًا خفيفًا، ويشخص إلى الأمام، في البعيد، فوق رؤوس النّاس بقليل، كأنّه في حذر دائم من أن تفاجئه كاميرا التّاريخ، في هيئة غير تاريخيّة، فتنقل للأجيال صورة مشوّهة عنه"(ص 186).
ويتابع الكاتب: "كأنّه بريء من هذا الزّلزال الّذي دام خمسة عشر عامًا. كأنّه لم يردّد أبدًا في محاضراته وخطاباته في كلّ المناسبات، وفي المقاتلين خاصّة بأنّه "ممنوع علينا الهزيمة" وبأنّنا "مجبورون على النّصر". وبلغت به الوقاحة إلى حدّ صار يفاخر في ما بعد، بعدما استقال من نشاطه الحزبيّ، بنظافة كفّه من أي نقطة دم". (ص 187).
هذه الإدانة للرّموز الحزبيّة ما كانت لتكون بهذه القسوة لولا انهيار المتّكأ الّذي كان هو الأمان والطّمأنينة، وبسقوطه كشف الكثير من الخداع. يصرخ الضّعيف ويقول: "أكرهه يا سيّد كواباتا" ولا يسمّيه بالاسم، لأنّه أوّلًا رمز لكثيرين و"لأنّنا عندنا لا نذكر اسماء أعدائنا". (ص 7).
سقط نظام وحلّ نظام جديد إذن، والمعترضون كثيرون، فلماذا لم ينتحر أحد منهم كما فعل كواباتا؟
ياسوناري كواباتا، أديب ياباني ينتمي إلى جيل ما قبل الحرب العالميّة الأخيرة، نال جائزة نوبل للآداب في 1968 ، وانتحر في 1972 بعد محاولات فاشلة عديدة، وهو الشّخصيّة الّتي يتوجّه إليها رشيد الضّعيف في رسالة طويلة. ويبرّر الضّعيف اختياره هذا بقوله: "أنا متأكّد من إنّك لا ترى في النّدرة ما يدعو إلى الرّيبة، بخلاف آخرين كثيرين، فلذلك وقع اختياري عليك" (ص9).
ويعود في الصّفحة 18 ويقول له: "وها أنذا أمسك بيديك لأريك أنحاء الوطن خاصّة إنّني أحببت اسمك كما بلغنا نحن العرب، فأصواته في لغتنا هينة، بسيطة، سيّالة، توحي الألفة. ثمّ ألست أنت الّذي كتبت رواية المعلّم، حيث انعصر قلبي، من شدّة ما تعاطفت مع المعلّم العجوز الّذي أحببت أن أرى في طريقته في اللّعب، حكمة اليابان وتاريخها العريق (أقصد القديم)... ثمّ تمنّيت أن أؤلّف مثلك رواية أتكلّم فيها عبر حدث عاديّ عن الصّدام بين هواء العصر، أقصد الحداثة المتحدّية المنذرة، وأهل الأرض، أقصد التّقليد" (ص18).
ولكن، ألا أسباب أخرى وراء هذا الاختيار؟ إنّ كواباتا من جيل ما قبل الحرب العالميّة الثّانية، أي جيل ما قبل الهزيمة، وأفراده عرفوا اليابان في عزّ مجدها، يوم كانت امبراطوريّة الشّمس المشرقة. هذا الجيل لم يحتمل هزيمة بلاده، فكثر فيه المنتحرون.
ورشيد الضّعيف من جيل ما قبل الحرب، عرف لبنان في عزّ مجده، يوم كان ملجأ للهاربين من "أنظمتهم الرّجعيّة أو البرجوازيّة الصّغيرة المتذبذبة الّتي تخاف من التّغيير الثّوريّ الجزري" (ص 143). وهو من جيل ما قبل هذا النّظام العالميّ الجديد، لا بل كان على الطّرف المقابل له. وها هو اليوم يحاول التأقلم مع الوضعين الجديدين عبر انتحار روائيّ، عبر موت ما، يريده بطل الرّواية "لكنّه أمر مستحيل، فلست أنا الّذي وضع النّواميس، ولست أنا الّذي جعل أن تجري المياه في مجاريها أو أن تفيض. وإنّ ما نسمّيه نحن العرب في لغّتنا: "سنّة الحياة"، لست أنا الّذي أستنها" (ص 224).
الموت عنصر أساسيّ في القصّة بدءًا بالصّفحات الأولى. إضافة إلى العنوان الّذي هو مطلع رسالة إلى رجل منتحر.
الموت هو الجوهر، يقول رشيد الضّعيف: "سأمضي مباشرة إلى الجوهر، وهو أمر يهمّك بقدر ما يهمّني. وما المبادرة الأخيرة الّتي قمت بها في حياتك سوى الدّليل الأبلغ". وفي ذلك إشارة إلى انتحار الكاتب اليابانيّ (ص 22).
والمرض اقتراب من الموت (ص 224)، والموت هو اللاشيء" (ص 206) بمعنى إنّ الموت لا يخيف ولا يرهب "كان الموت فترتها رجائي، كان الرّاحة المطلقة". ثمّ يقول: "الألم يهوّن عليك الموت بل يحوّله إلى حاجة ضروريّة، إلى حلم" (ص 207)، ويعترف رشيد الضّعيف بأنّه لم يتألّم كما كواباتا وإلّا لكان انتحر وتاليًا لا أحد من هؤلاء المعترضين على هذا النّظام الجديد لم يتألّم ما فيه الكفاية وألّا لانتحر عدد كبير منهم احتجاجًا صارخًا.
ومقابل هذا الموت تظهر الذّاكرة وكأنّها الحركة الدّائمة الّتي لا تعرف راحة: "لم يبق إلّا الذّاكرة" يقول الكاتب في الصّفحة 24، وذاكرته لا تنسى أيّ شيء ولو شاء لاستعاد بها لون كلّ نهار مرّ عليه. والذّاكرة "نعمة عظيمة". لا تحفظ فقط كلّ ما يخصّها ويعنيها مباشرة بل هي ذاكرة جماعيّة ترث كلّ شيء بدءًا باللّغة. ورشيد الضّعيف لا يملّ من تذكير القارئ بهذه اللّغة المتوارثة. ففي كلّ مرّة يستعمل تعبيرًا موروثًا وتقليديًّا يلفت الانتباه إليه بعبارة يضعها، مستطردًا، بين قوسين: "والحرب ما كادت أن تضع أوزارها (لاحظ هذه العبارة يا سيّد كواباتا: "وضعت الحرب أوزارها" وسترى كم عندنا، في العربيّة، من عبارات كثيرة مثلها، جميلة إلى الأبد)..." (ص 10).
لماذا هذه الإشارة إلى اللّغة التّقليديّة، والكاتب كما سبق وأشرنا يتمنّى أن يؤلّف رواية تتكلّم عن الصّدام بين الحداثة والتّقليد؟ هل هي ردّة فعل تجاه تيّارات سياسيّة ـ أدبيّة تريد الانتفاض على اللّغة وإعادة صوغها من جديد، بمفردات وتعابير جديدة؟
الرّفيق المناضل ـ في الرّواية ـ كان معجبًا بكتابات رشيد الضّعيف عن الثّورة والشّهداء، وهذا الإعجاب يعود إلى كون هذه الكتابات تمسك "بمفصل رئيسيّ من مفاصل الواقع وهو إنّ الثّورة تغيّر الواقع الاجتماعيّ تغييرًا جذريًّا، وتدخلنا عتبة التّاريخ. إنّها التّحوّل الدّيناميكي نحو الأفضل دائمًا. ثمّ إنّ تغيّر الواقع يعني أيضًا تغيّر البنى الفوقيّة للمجتمع ومن بين هذه البنى: اللّغة" (ص 196).
أنكاية في هذا الرّفيق المتخاذل يتشبّث الضّعيف بهذه اللّغة كما وصلته، ويلفت الانتباه كلّ مرّة إلى الموروث منها، وحين لا يفعل فلئلّا يفسد على القارئ انسياب قراءته (ص 151)؟ أم هي العودة إلى الذّات المفقودة تلك الّتي تجعله يذكّرنا بأنّه عربيّ: "نحن العرب"، "عندنا في العربيّة"....؟
قد تكون هذه الرّواية من أفضل ما كتبه رشيد الضّعيف، ولكن إشارة إلى إنّه ليس أوّل شيوعيّ لبنانيّ يشير إلى هؤلاء الثّوريّين "المنحرفين" عن خطّ الثّورة ـ ولم يدّع هو بالطّبع ذلك ـ ، وكثيرون قبله ـ عبر مقالات وقصائد ـ عبّروا عن الخيبة والصّدمة إلى حدّ الفجيعة ممّا آلت إليه أوضاع الحزب، بل إنّ بعضهم وضع علامات الاستفهام حول العقيدة نفسها. وتبقى المرارة لرؤية رفاق الطّريق يتحوّلون من مثال أعلى إلى مثار للإشمئزاز والكره أقسى من أي شيء آخر: "القهر من المشاعر القاسية جدًّا يا سيّد كواباتا، وإنّ الموت بالقهر هكذا، أصبحت من الموت وحسب" (ص 222).
أوليست هي الصّرخة نفسها الّتي أطلقها يحيى جابر في مقالته: "كنت شيوعيًّا ": "لماذا يتحوّل الرّفاق إلى أصدقاء؟
كم أنا مفجوع!
أنا يتيم الأحزاب والأفكار، على مائدة اللّئام من الرّفاق" ؟(2).
مي م. الرّيحاني
(الاسم المستعار لماري القصّيفي)
جريدة "النّهار" الأربعاء 26 نيسان 1995

(1) عزيزي السّيّد كواباتا، رشيد الضّعيف، منشورات مختارات.
(2) نجوم الظّهر، يحيى جابر، دار رياض الرّيّس للكتب والنّشر.





ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.