أربعة أسباب قد تدفع زعيمًا لبنانيًّا لمصالحة عدوّه أكان هذا العدو شخصًا أم دولة:
السبب الأوّل: الرغبة في الغفران والتعالي فوق الإساءة مهما كان حجمها، وهذان الأمران ينبعان من التزام دينيّ يجعل الإنسان الملتزم في داخل هذا الزعيم يتصرّف بوحي إيمانه وانسجامًا مع التزامه.
السبب الثاني: وضع مصلحة الطائفة التي ينتمي إليها هذا الزعيم – وما من زعيم لبنانيّ لا يمثّل طائفة – فوق كلّ اعتبار، وهذا يعني تخطّي المشاعر الشخصيّة والاعتبارات الذاتيّة من اجل إنقاذ الطائفة من تداعيات هذه العداوة.
السبب الثالث: وضع مصلحة البلد في سلّم أولويّات هذا الزعيم، فينسى (أو لعلّه يتناسى) حقده وغضبه، ويترفّع عن الثأر الشخصيّ (أو لعلّه يؤجّله) إذا كان في ذلك خلاص الوطن.
أمّا السبب الرابع فيكمن في طبيعة بشريّة لا يتخطّاها إلاّ القدّيسون والأبطال الشهداء وهو الخوف على الذات من مصير قاتم ينتظر هذا الزعيم إن استمرّ على عدائه شخصًا أو دولة لا قدرة له على الانتصار عليهما. فأيّ سبب من هذه الأسباب جعل الزعيمين اللبنانيين وليد جنبلاط وسعد الحريري يعلنان استعدادهما لزيارة سوريا متى سمحت الظروف؟ فالزعيمان المذكوران لا يزالان يعتبران أنّ النظام السوريّ مسؤول عن مقتل والد كلّ منهما، وأنّ كمال جنبلاط ورفيق الحريري راحا ضحيّتي النفوذ السوريّ والرغبة في الهيمنة على لبنان. ومع ذلك يعلنان أنّ لبنان لا يستطيع الاستمرار في عدائه للجارة الشقيقة.
فإذا كان الغفران المنبثق من التزام دينيّ هو الذي يجعل هذين الزعيمين يتخطّيان اغتيال والد كلّ منهما، فلماذا لا يتعلّم الزعماء المسيحيّون الغفران منهما بعدما عجز دينهم المسيحيّ القائم على الغفران عن تعليمهم ذلك؟ وإذا كانت مصلحة الطائفتين الدرزيّة والسنيّة تفرض على زعيميهما تناسي الماضي والارتفاع فوق مآسيه لإعلان عهد جديد من العلاقات السياسيّة مع دولة مجاورة هي امتداد لطائفتيهما، فلماذا لم يتعلّم زعماؤنا المسيحيّون ذلك من العهد الجديد في إنجيلنا، وفيه دعوة كي نكون حكماء كالحيّات وودعاء كالحمام؟ وإذا كانت مصلحة البلد كما يعبّر الزعيمان الدرزي والسنيّ تقضي بمصالحة سوريا، فلماذا لا يتّعظ زعماؤنا المسيحيّون الحريصون على مصلحة البلد كما يعلنون في كلّ مناسبة ويصالح الواحد منهم أخاه قبل أن يقدّم قربانه على مذبح الربّ، وبدل أن يحوّلوا البلد أضحية على مذبح أنانيّاتهم؟ أمّا إذا كان الزعيمان اللبنانيّان خائفين على نفسيهما ومصير زعامتهما، وهما اللذان يتمتّعان بوحدة طائفتيهما المتكتّلتين حولهما وباتصالات عربيّة وعالميّة تجعلهما مطمئنّين ولو إلى حين إلى إمكان تأجيل أيّ حكم بحقّهما، فهل يعني ذلك أنّ زعماءنا المسيحيّين لا يزالون مقتنعين بأنّ مسيحيي لبنان لا يزالون محور اهتمام العالم وأنّ شعرة من رؤوسهم لن تسقط كي لا يسقط استقرار المنطقة وأنّ لبنان لا يطير إلاّ بجناحيه المسيحيّ والمسلم وأنّ الله لن يتخلّى عن كنيسته ولو تخلّوا هم عنها؟
المسيحيّون في لبنان يحسدون أبناء الطوائف الأخرى على زعمائهم: يحسدون الطائفة الشيعيّة على نبيه برّي، رجل السياسة، الذي كسر نظام الجامعة اليسوعيّة وحقّق لفتاة متفوّقة تستحقّ كلّ تكريم ومساعدة في تحقيق حلمها في الدراسة الجامعيّة، وعلى تكامله مع السيّد حسن نصر الله الذي يملك الذراع العسكريّة التي لا تلوى؛ ويحسدون الطائفة السنيّة على سعد الحريريّ الذي وضع ثروته في خدمة أبناء الطائفة، وبعلاقاته الدوليّة والعربيّة وفّر لهم غطاء يحميهم من تقلّبات الطقس السياسيّ؛ ويحسدون الطائفة الدرزيّة على وليد جنبلاط المدعوم من مشايخ الطائفة، والذي يعرف متى يزور الأمير طلال أرسلان ومتى يستقبل وئام وهّاب. أمّا المسيحيّون، الموارنة تحديدًا الذين يفوق عدد قادتهم الروحيّين والزمنيّين عدد الأتباع، فما عادوا ينتظرون من زعمائهم إلاّ المجازر العسكريّة بهدف توحيد السلاح، وتضييع الهويّة بحجّة الانفتاح مرّة على الشرق ومرّة على الغرب، و"الزحفطونيّة" من اجل الوصول إلى أقرب كرسي.
***
النهار - الأربعاء 22 تمّوز 2009
***
النهار - الأربعاء 22 تمّوز 2009
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق