مغارة جعيتا
في مرحلة من مراحل الحرب اللبنانيّة الطويلة اتّخذ الجيش، في إطار سعيه لدرء خطر تفكّك أوصال الوطن، شعار: أكبر من أن يُبلع وأصغر من أن يُقسّم. وكانت سيناريوهات التقسيم عهدذاك تتغيّر تفاصيلها بين وصول مبعوث عربيّ ومغادرة مندوب أجنبيّ، حتّى صار الأمر أقرب إلى فيلم سمج أو لعبة سخيفة لا قيمة في أيّ منهما لحقّ الشعب في تقرير مصيره. وبعد مضي أكثر من خمس وثلاثين سنة على اندلاع الحرب، يبدو الوطن الذي اعتبره كثيرون خطأ تاريخيًّا وأكثر البلدان العربيّة هشاشة، صامدًا بالمقارنة مع ما يحصل في الدول التي تبدو على عتبة التقسيم والتفتيت ولمـّا يمضِ على "ثوراتها" بضعة أشهر. وغير خافٍ أنّ اللبنانيّين منقسمو الرأي أمام المشهد العربيّ، فهناك الشامتون الذين يعتبرون أنّ العرب يدفعون ثمن تخلّيهم عن لبنان أو تواطؤهم عليه، وهناك طبعًا القلقون المترقّبون ما يمكن أن ترسو عليه الأمور وكيف ستنعكس على وطنهم، فضلاً عن اللامبالين الذين لا يعنيهم الأمر ما دام لا يعرقل مشاريعهم اليوميّة. أمام هذا الواقع يبقى التساؤل المفتوح على أكثر من سؤال: كيف استطاع هذا البلد الصغير أن يبعد عنه شبح التقسيم مرّة بعد مرّة؟ ولماذا تبدو الدول العربيّة الآن أكثر قابليّة للتشرذم ممّا كان عليه لبنان إبّان أصعب سنوات الحرب؟
الحريّة هي المدخل إلى الأجوبة كلّها. وهي حريّة من طبيعة مختلفة إن صحّ التعبير، عصيّة على التحديد، يصعب ترويضها لأنّها لا تخضع إلّا لنفسها ومزاجها ورؤاها. ولأنّها كذلك دافع عنها اللبنانيّون على اختلاف مذاهبهم وأحزابهم، ومن أجلها اغتيل عدد كبير من الرؤساء والزعماء الذين في لحظة مصيريّة رفضوا المسّ بهذه الحريّة إيمانًا منهم بأنّ لبنان من دونها لن يبقى الوطن الذي عرفوه ويريدون له البقاء مهما اختلفت نظرتهم لبناء الدولة فيه. ومن هذه النقطة، نستطرد إلى أمر آخر يختلف فيه لبنان عن سائر الدول. ففضلاً عن الحريّة التي لم يستطع أيّ بلد عربيّ آخر أن يتمتّع ولو بما يشبهها، كان لبنان ولا يزال وطنًا يبحث عن دولة تحقّق أحلامه، في حين كانت الدول العربيّة الأخرى القويّة والقادرة تفتقر إلى حلم تسعى إلى تحقيقه بعدما أقنعت الأنظمة شعوبها بأنّ ما هم فيه أفضل ما يمكن الوصول إليه. فلبنان الفوضويّ إذًا كان نقيض "النظام" العربيّ، وحريّته كانت خطرًا على "انضباط" جيرانه، لذلك بدا لكثيرين أنّه الساحة المناسبة تمامًا لتنفيس صراعات المنطقة. لكنّ هذه الصراعات كانت دائمًا تحيد عن أهدافها متى غرقت في ترف الحياة اللبنانيّة ومزاج ناسها المتنقّل من سهولة السهل إلى عناد الجبال إلى مدّ البحر وجزره. وهذا ما كان يثير نقمة الذين كانوا يطمئنّون إلى أنّهم وجدوا فيه حلفاء يتبيّن عند الامتحان أنّهم يفضّلون "التكويع" والالتفاف وتغيير التحالفات على أن يحشروا أنفسهم في ما يلزمهم تغيير طبيعة البلد. ففي عمق أعماق اللبنانيّ، ولو بدا رافضًا التركيبة الغرائبيّة، ما يجعله معجبًا بها، بل فخورًا، لا يطيق أن تتعرّض للتغيير. أليس لهذه الأسباب ينقل اللبنانيّ طراز حياته بحسناتها وسيّئاتها إلى حيث يهاجر؟
بعد الحرب العالميّة الثانية وقيام الدول العربيّة، بدا واضحًا أنّ التركيبة اللبنانيّة بعيدة كلّ البعد عمّا يجاورها ويحيط بها. فحوله أنظمة (ملكيّة، عسكريّة، قبليّة)، وفي كلّ منها عائلة تتوارث الحكم بينما فيه عائلات سياسيّة تتوافق ولو في عزّ تناحرها، وفيه توافق على تقاسم السلطة بين الطوائف بينما دساتير جيرانه وأشقّائه تستوحي الإسلام وإن ادّعى بعضها عصرنة أحكامه ونظمه. وبطريقة ما استطاعت هذه التركيبة الغريبة أن تتعامل بذكاء فطريّ مع تأثيرات الثورة الفلسطينيّة وثروات النفط العربيّة والانهيارات الاقتصاديّة في بقعة صغيرة قياسًا لسواها، فنجت لتشهد انهيار أكثر الدول والأنظمة التي كان لكلّ منها في قضيّته رأي وموقف ووساطة وجيش ومال. ولشدّة خصوصيّة النظام اللبنانيّ الذي فيه كلّ شيء إلاّ النظام، بدا واضحًا كم يصعب استنساخه أو تطبيق ما يماثله في غيره من البلدان، بقدر ما لا يمكن إصلاحه. فحين يتّفق ضمنًا الطائفيّ مع العلمانيّ، والمجرم مع القدّيس، و"العيّيش" مع المثقّف على أنّ ما هم فيه يلائم الجميع فلن يكون ثمّة مجال لتغيير جذريّ. لذلك حين اجتاحت إسرائيل لبنان عام 1982 واستقرّت لبعض الوقت في عمق الداخل، كان الضبّاط الإسرائيليّون من أصحاب الرتب العالية ينظرون إلى مستوى معيشة الناس ولو كانوا من طبقة متوسّطة ويقارنون بين نوعين من الحياة: حياتهم القائمة على الخوف وإن كانت دولتهم تملك ترسانة عسكريّة ضخمة، وحياة ترفة لشعب يفترض أن يكون تحت الاحتلال وضحيّة حرب شرسة دامت أعوامًا. فالمستنقع الذي هرب منه الإسرائيليّون حين غادروا لبنان إذًا كان حضاريًّا أكثر منه عسكريًّا، فلم تكن الدولة التي تخصّص للتسلّح الجزء الأكبر من ميزانيّتها مستعدّة للإجابة على أسئلة جنودها وضبّاطها عن أسباب حرمانهم من مستوى الحياة التي يتمتّع بها جيرانهم الأعداء على حدودهم الشماليّة.
لا تلغي هذه النظرة التفاؤليّة، الساذجة على الأرجح، مخاوف كبيرة لا تزال تهدّد البلد من أهله قبل سواهم، فالحريّة نفسها التي كانت مصدر قوّته حين كان محاطًا بأنظمة صارمة قد تكون، إن لم ينتبهوا، نقطة ضعفه متى استقرّت الأرض العربيّة بعد سلسلة الزلازل التي تتعرّض لها. وهو في ذلك يشبه أصغر أبناء العائلة المطمئنّ إلى وجود أخوته الحكماء الكبار، فينصرف إلى اللهو واثقًا من أنّه عند الحاجة سيجدهم إلى جانبه، إلى أن يكتشف فجأة أنّ العمر والتعب وهموم الحياة ستعيقهم عن نجدته ما يجبره على القيام بما لم يقم به قبلاً أي أن ينهي مرحلة الدلع والغنج ويتّكل على نفسه قبل فوات الأوان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق