إم ملحم وأبو ملحم (تلفزيون لبنان) |
الهويّات القاتلة التي تكلّم عنها الكاتب اللبنانيّ الفرنكوفونيّ أمين المعلوف في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه لا تكون قاتلة إلاّ إن تركت هويّات مقتولة. ومعروف أن لا جريمة من دون جثّة. وإن كان أمين معلوف نموذجًا عن الإنسان المعاصر المتأرجح بين هويّتين (أو أكثر) وعالمين: الشرق والغرب، فأولاده نموذج عن جيل حسم أمره واختار هويّته (ولو كانت مزيجًا من هويّات)، ما يعني أنّ الهويّة اللبنانيّة قتيلة، ضحيّة، جثّة، تنتظر أن تدفن بطريقة لائقة، أو تحرق وينثر رمادها في أربع جهات الأرض.
يعترف أمين معلوف أنّ أزمة الهويّة ستطبع القرن الحادي والعشرين. وهو في حديثه عن أولاده الثلاثة يقول:
وأنا أب لثلاثة أولاد أكبرهم رشدي وهو محام يقيم حالياً في اليابان وهو يتكلم اليابانية وعمره 37 سنة، والثاني هو طارق وعمره 34 سنة وقد أسس مع أصدقاء له في باريس شركة فيديو وسينما وإعلانات، أما الثالث زياد، فهو صحافي في اذاعة فرنسا الدولية.
ونحن أصررنا على التحدث معهم بالعربية ولو ان معرفتهم بها محدودة.
وحين يأتي على ذكر زوجته أندريه يفتخر بأنّها وضعت كتابًا في فنّ الطبخ اللبنانيّ، عرف نجاحًا كبيرًا.
***
خلال لقائي أصدقاء قرّاء في مهرجان الكتاب المستمرّ في أنطلياس، فاجأتني سيّدة شرقيّة الملامح أثناء مرورها أمام جناح دار النشر (سائر المشرق) وهي تنظر إلى عنوان الكتاب وتستنكر غاضبة وهي تقول باللغة الفرنسيّة: ما هذا؟ أنا لا أقبل.
السيّدة أذًا تجيد قراءة اللغة العربيّة وإلاّ ما كانت فهمت عنوان الرواية: كلّ الحقّ ع فرنسا. ومع ذلك، عبّرت باللغة الفرنسيّة عن غضبها ورفضها، بعدما قرأت العنوان وما كتب على الغلاف الأخير، ثمّ رمت الكتاب على الطاولة وابتعدت وهي تتمّتم: ما هذا؟ أنا لا أقبل.
أحد القرّاء الأصدقاء من الذين تابعوا المشهد معي علّق: ظنّت أنّكِ تنشرين قرار المحكمة الدوليّة وتتهمين فرنسا باغتيال الحريري.
***
في اليوم التالي، دار نقاش صاخب بين مجموعة أشخاص يرتشفون القهوة في أحد المقاهي حول الفوارق التي تميّز المسلسلات التركيّة عن السوريّة. الأصوات المرتفعة جعلت الموضوع ينتقل إلى الطاولات المجاورة، التي راح المتحلّقون حولها يعطون آراءهم في الموضوع. وكان هناك إجماع على أنّ الأتراك يشبهوننا أكثر بتقاليدهم ومأكولاتهم وأثاث منازلهم. وغاب عنهم أنّ أكثر المسلسلات السوريّة تاريخيّ الطابع وبالتالي لا يمكن أن تشبه ما نحن عليه الآن. استعدت خلال متابعتي هذه النقاشات العلنيّة تعليقًا لم أعد أذكر من قاله عن أنّنا معجبون بمسلسلات تركيّة بأصوات سوريّة والدولتان كانتا "تحتلاّن" لبنان. وأضيف: وفرنسا كذلك.
***
المشهد التالي لم يعد غريبًا عن حياتنا اليوميّة:
المناسبة: مأتم
الزمان: الصيف (أي حين يكون المغتربون في لبنان)
المكان: صالة تابعة للكنيسة
الحاضرات من النساء: كنّة إسبانيّة، كنّة نمسويّة يهوديّة، كنّة فليبينيّة تزوّج منها أحد أفراد الأسرة من دون أن يضطرّ إلى الهجرة للاقتران بأجنبيّة، برتغاليّة من أمّ هنديّة، جارة أوكرانيّة. فضلاً عن عاملات أسيويّات وأفريقيّات، ومجموعة أولاد يتكلّمون بلغات أمّهاتهم أو مربيّاتهم أو خادماتهم.
***
مشهد آخر ولكن من بلاد الاغتراب:
رجل لبنانيّ متقاعد، أي لم يعد العمل هاجسًا ينسيه غربته. طلع على باله صحن تبّولة. زوجته الهولنديّة لا تجيد تحضير أيّ صنف من المأكولات اللبنانيّة، وأولاده موزّعون في بقاع الأرض. بكى الرجل وهو يفرم البقدونس (لم ينتظر فرم البصل) ويستمع إلى صباح تغنّي: سفّرني معك على هالطرقات.
وللكلام تتمّة...
هناك تعليقان (2):
رؤية جميلة ونص رائع كما عوّدتنا.
أشكر لك متابعتك ورأيك
إرسال تعليق