وحدها الطبيعة تستحقّ أن نتذكّرها في عيد الأمّهات، وكلّ أمّ عداها تُلام لأنّ الذين أنجبتهم أبناء للحياة خربوا الأرض ولوّثوا المياه وأفسدوا الهواء. هل في هذا الكلام قسوة على أمّهات لا ينطبق عليهنّ هذا الوصف؟
أكيد. أعرف ذلك وأعترف به وأنا أرى إلى يد أمّي الخضراء تفيض زهرًا وزيتاً.
ولكن في ما يصيب الطبيعة قسوة أكبر، وإلاّ لما كانت اهتزّت تحت أقدامنا، وفغرت فاهها لتبتلعنا، وأغرقتنا في حمم أحشائها. للذين يعيثون في الأرض فسادًا أمّهاتٌ يحببن فلذات أكبادهنّ، فماذا ينتظرن منهم في عيد الأمّهات؟
زوجة علي عبد الله صالح أمّ، وزوجة معمر القذافيّ أمّ، وزوجة زين العابدين بن عليّ أمّ، وزوجة حسني مبارك أمّ، فبأيّ حال عاد عليهنّ العيد؟ وما الهدايا التي ينتظرنها من أبنائهنّ:
أسِواراً آخر وأولادهم الزعماء، أولاد الزعماء، سوّروا بلادهم بالنار؟
أم قلادة نادرة وهم قلّدوا أنفسهم أرفع الأوسمة بعدما ساموا شعوبهم الذلّ؟
أم خاتمًا والواحد منهم مؤمن بأنّه خاتم الزعماء والقادة وصنو الأنبياء؟
أم عقيقًا وهم ما تعلّموا إلاّ العقوق للوطن فأغرقوه في أحمر الدم، وما أجادوا إلاّ الغدر بالناس فذبحوهم كالنعاج؟
وكيف يمرّ العيد نفسه على والدات الشهداء والضحايا والأسرى والمخطوفين وسجناء حريّة الرأي الذين لا تتّسع حيطان مدننا العربيّة لصورهم وأسمائهم؟
وهل من العدل أن نعطي لكلّ اللواتي أنجبن أولادًا اسم أمّ؟
• • •
طلاء الأظافر الأحمر المتوهّج نارًا على أنامل النساء أكثر أناقة ونظافة من التراب الأحمر الخصب المعطاء، فكيف لا تغار الطبيعة وتنتفض نقمة؟
الرياضة في النادي الحديث أكثر رفاهيّة من العمل في الحقل، فكيف لا تحزن الأشجار وتذرف أوراقها دمعًا على جنس البشر الباحثين في جنس الملائكة أو اللاهثين خلف جنسٍ مصنّع؟
فأقلّ ما تفعله الأرض أن تميد لا بل أن تهتزّ لأنّ الأمّهات اللواتي كنّ يهززن السرير بيد والعالم بيد اعتزلن الأمومة وقدّمن استقالات جماعيّة من العناية بأولادهنّ من أجل تحقيق ذواتهنّ. فكيف ستكون، وهذه هي الحال، صورة الأمّ في الآداب والفنون من الآن فصاعدًا؟
وهل نتوقّع بعد الآن أن يصدّق تلامذة المدارس قصائد يعلّمونهم إيّاها في هذه المناسبة عن الأمّ الملاك التي قدّسها سعيد عقل، أو الأمّ التي تحبّ بغير منّة كما رآها رشدي المعلوف، أو الأمّ التي تصنع الخبز والقهوة كما انطبعت في ذاكرة محمود درويش؟
• • •
من خبريّات الأمّهات الحديثات:
1- معلّمة في مدرسة لا تقبل بالتخلّي عن عملها علمًا أنّ راتبها لا يتعدّى مبلغ الـ 600 ألف ليرة، ولا تعترف في الوقت نفسه بأنّها تدفع أكثر من ذلك بكثير كلفة خادمة لبيتها وحضانة لطفلتها، ومعلّمة دروس خاصّة لابنها الكسول، فضلاً عمّا تنفقه على ثيابها وشعرها وأظافرها وأدوات زينتها. والسبب في تمسّكها بالعمل بحسب قولها هو تربية الأجيال الصاعدة!
2- عاملة هاتف في مؤسّسة توقظ طفليها من نومهما عند الخامسة صباحا لكي تستطيع أن توصلهما عند والدتها قبل أن تذهب إلى عملها، ولا يعنيها كثيرًا ما يسبّبه لهما ذلك من توتّر نفسيّ وأمراض، فحجّتها أنّ النساء في زمننا لا يقبعن في البيت بل يساهمن في بناء المجتمع.
3- موظّفة في مصرف لم تعلّم أولادها أبسط أمور النظافة الشخصيّة غضبت حين استدعتها المدرسة لتنبيهها إلى هذا الأمر، لأنّ زملاءهم ينفرون منهم، فبرّرت انشغالها عنهم بحاجتها إلى العمل لأنّ المصرف يدفع قسمًا كبيرًا من أقساط المدرسة (حيث يشمئزّ منهم الجميع).
• • •
اعتدنا الشعارات والأناشيد. ولا أعرف إن كان يجري مثل ذلك في الدول الأخرى وبمثل هذا الإصرار والتكرار: أغنيات وقصائد للأرض والوطن والشجرة والأمّ، ومع ذلك ها هي الأرض تتصحّر والوطن يتفتّت والشجرة تحترق والأمّ تمحو صورتها التقليديّة كرمز للتضحية لترسم واحدة جديدة لا رائحة طعام تفوح منها. الرائدات في مجال تحرير الأمّ من صورتها النمطيّة حقّقن إنجازًا حين ثرن على عبارة: "كان أبي يقرأ الجريدة وأمّي تعدّ الطعام"، وهي العبارة التي رافقتنا في كتب القراءة منذ الدرس الأوّل. غير أنّ الصورة الجديدة للمرأة الحديثة وقعت في التطرّف السابق نفسه: رفضٌ لإعداد الطعام وصولاً إلى التخلّي التامّ عن الواجبات العائليّة، كأنّ ذلك أمر معيب ومهين، مما يستدعي بالتأكيد نصًا جديدًا وقراءة اجتماعيّة جديدة، لعلّنا نصل إلى المرأة/ الأمّ الحرّة، لا الضحيّة التي تشعر بالذنب إن اعتنت بنفسها، ولا الأنانيّة المؤمنة بأنّ أنوثتها سلاح وأمومتها عقاب.
***
صحيفة النهار - الثلثاء 22 آذار 2011