الشاعر يحيى جابر في حفلة توقيع كتابيّ في معرض الكتاب العربيّ |
"لأنّك أحيانًا لا تكون" باكورة ماري القصيفي
نصوص مفتوحة على شتّى الأساليب
بقلم الشاعر يحيى جابر
(صحيفة البلد - 2005)
(صحيفة البلد - 2005)
بعيدًا عن الصخب والضجيج لما يسمّى "الأدب النسائيّ" ونصّ
"المرأة" والكتابة "الأنثويّة"، تطلّ ماري القصيفي بكتابها
الأوّل "لأنّك أحيانًا لا تكون" (دار مختارات) مبرعمة بالخجل على مساحة
نصوص مفتوحة في حقول مختلفة لربيع واحد.
في أوائل التسعينات عندما ساد سلم أهليّ وثقافة شابّة تتفتّح في جميع
الأرجاء، أذكر كاتبة مشاكسة كانت تدعى "مي م الريحاني" في الصفحة
الثقافيّة لجريدة "النهار"، تساجل وتناقش عن مدينة وصراع أجيال، لأكتشف
لاحقًا أنّها "ماري القصيفي" تكتب باسم مستعار...وسيمرّ زمن لتعلن اسمها
بلا ادّعاء ولا بهورة، ولا علاقات عامّة في الثقافة وعالمها الاستهلاكيّ
ناقدة بعيدة عن الإخوانيّات وكرسي المقهى والحوارات التبخيريّة، منشغلة
بالكتابة نقدًا وإبداعًا، وتتواصل بالمراسلة فقط لا غير، ولم يكن غريبًا أن تكون
زاويتها الأسبوعيّة تحت عنوان "أضواء خافتة"، مبتهجة بكونها غريبة ولا
أحد يعرف صورتها أو صوتها. تفاجئ ماري القصيفي قارئها من اختصار المشهد في حكاية
إلى لغة متوثّبة وقلقة كالقصيدة، إلى دقّة ملاحظة تعاين حياة اجتماعيّة أو ثقافيّة.
قلقة في "بيت من حبر" لا متعة سوى الشعر، من زوايا مختلفة للعين،
أو الرويّ بلهجات مختلفة بلسان واحد، والتطريب بالجملة وشفافيّتها بمرايا متعدّدة
لوجوه كثيرة.
لا ينتظم كتابها "لأنّك أحيانًا لا تكون" تحت تصنيف ما، أو يندرج
تحت عنوان معيّن لفنّ أدبيّ، إنّها الكتابة المشرعة على كلّ شيء وبشتّى الأساليب.
من الغصّة المخنوقة، إلى القهقهة والسخرية، مرورًا بالحكمة والمثل، وصولاً
إلى المفارقة والمقارنة. بلا ادّعاء هويّة "شاعرة" أو قاصّة" أو
"روائيّة" أو "ناقدة" كأنّ الحصول على اللقب آخر همومها، حيث
انتفاء الرغبة باسم أو الانتماء إلى شريحة ما.
وحدها اللغة، تلاعبها ماري القصيفي وتتلاعب بها، وهي "أستاذة أدب
عربيّ" ولكن بلا إفراط في كلاسيكيّة ما، أو رومانسيّة، وصولاً لما يسمّى
تفجير اللغة وتثويرها، هي اٌرب إلى نبع منسيّ تحت حشائش.
بلا ثرثرة
تسكن ماري القصيفي في بيت القصيدة...بلا ثرثرة، ولا تسهب في المقالة، وتضجّ
بالسخرية بلا قنابل صوتيّة، ولا ترمي قنابل دخانية في وجه القارئ.
في قلب القصيدة تنبض، وترسم جغرافيا للحكاية، وتخاطب عابرًا، كأنّ النصوص
تارة حديقة مشذّبة، وتارة أخرى من طبيعة بريّة بلا مقصّات. إنّها الكتابة كماء
سبيل لعابر، يشرب ويمشي ويعود مرّة أخرى.
يبدو الكتاب دفتر يوميّات لحواس خمس من ذاكرة وعين وأذن، تارة، أو الكتابة
بالأسنان التي تكزّ من الوجع، أو لإطلاق صرخة خافتة أقرب إلى الهمس لحظة رواية
الحبّ وتفاصيله.
لا تفتعل ماري القصيفي معركة مع اللغة، بقدر ما تروّضها لتصبح طيفًا أو
روحًا هائمة تحت الكلام. ولا تقع لحظة في إرشاد مدرسيّ أو تربويّ، إنّها الجرأة
حتّى الخجل والتواري. ويذوب الكلام كالشوكولا لتبدو كأنّها في اللغة ساندريلاّ
الكتابة، التدوين بالأحلام والمنامات وعلى مشارف نعاس من الرقّة والوداعة لنصوص
مفروشة بحرير مفردات.
يحدث في معظم النصوص أن تشاغب ماري القصيفي، من قلب المعاني، والطرافة
المفاجئة، أو أن تتحوّل ظلالاً ممصولة، تنتقل من نحلة تلسع إلى عصفورة تغرّد. أن
تلاكم أو تختفي وتنسحب من الحلبة محمّرة الخدّين أو تستسلم لفكرة خيانة أو
حبّ في الوقت نفسه.
لكلّ كتاب أوّل بهجته وامتحانه. اجتازت ماري طرقًا وعرة، مخلصة لدربها الذي
تخطّه على مهل وهي الآن تائهة في مستديرة من المواهب، شاعرة أم قاصّة، ناقدة أم
حكيمة. وكلّ ذلك يحتاج إلى بعض الوفاء وأن تفتح جارورها على حكايات أوصدت عليها
تحت عنوان أنّها لا ترغب في النشر، خوفًا من الانضمام إلى الطابور الطويل من
الشعراء أو القاصّين، ربّما تكون الرغبة هي المتعة بالعزلة والانطواء،ولكن...لماذا
يا ماري.
هناك تعليق واحد:
قراءة مستبصر خبير لباكورة متينة نُحتت من مجد الأرز وعنفوان السنديان
إرسال تعليق