أن تكون فقيراً في لبنان لا يعني أنّك تشبه سائر الفقراء في العالم، ولا يمكنك بالتالي أن تعتبر نفسك مساويًا لهؤلاء الذين لا يخجلون من فقرهم ويتعاملون معه على أنّه حقيقة لا مفرّ من الاعتراف بها والتصرّف تبعًا لمقتضياتها. فبلدان العالم الفقيرة تقرّ بمرتبتها هذه، والفقراء فيها يعرفون قبل سواهم أنّهم فقراء. أمّا نحن، وكما في كلّ أمر يتعلّق بالمحافظة على المظاهر والتأثر بآراء الناس فينا، فأثرياء مزيّفون، فقراء في السرّ، محتاجون من دون أن يشعر أحد بما نحتاج اليه، ونبني من هذه المسلّمات الواهية حياة قائمة على الخداع والخبث. وليس ذلك حفاظاً على الكرامة كما قد يتبادر الى الذهن بل انسجام مع أيقونة مقدّسة رسمناها لأنفسنا ونرفض إعادة النظر فيها. فما هي صفات هذا الفقير اللبنانيّ "الغير شكل"؟ هو بكلّ بساطة الذي يعيش حياة يصعب أن يؤمّنها له راتبه الشهريّ، فيهدر الوقت وهو ينتظر أمرين: نتائج اللوتو واليانصيب ووصول المال من ابن أو أخ يقيم في الخارج (هذا إن كان شريفاً لا يسرق ولا يقبل رشوة). وفي انتظار تحقيق أحد الحلمين يلهو بتقليد الأغنياء والإيحاء ببعض رفاهيّة أو على الأقلّ بكثير من الاكتفاء، وهو لا يعلم أنّ أمره مفضوح، وأنّه ذو خلفيّة فقيرة معروفة وله تاريخ حافل بالعوز، وما احتفاله بما استطاع الحصول عليه إلاّ الدواء المسكّن لمعاناة الطفل الذي كانه.
من المشاهد المعبّرة عن حياة هذا اللبنانيّ أنّهّ يمد السجّادات في بيته بعدما يبدأ الشتاء خوفاً من أن يؤذيها غبار الصيف، ثمّ يخفيها مع إطلالة الربيع قبل أن يتوقّف المطر بحجّة الغبار نفسها، ويحمي "شراريب" السجّادات بالورق اللاصق كي لا تتمزّق أو تتّسخ، ويسرع إلى رفع الستائر كي لا تطاولها الشمس وتتسبّب في اهترائها ولو كان يعرف أن ذلك لن يحصل إلاّ بعد سنوات طويلة. وبسبب الشمس والضوء والغبار يغلّف المقاعد بقماش آخر يسهل غسله ويحمي القماش الأساسيّ ويتركه نظيفاً للضيوف. ويحبّ "الكراكيب" ويحتفظ بها، فلربما احتاج إلى شيء منها، لذلك نجد تحت الأسرّة علباً نسي هو نفسه ما فيها، وفي العليّة أغراضاً لا يذكرها، وفي الخزانات ثياباً لم يلبسها منذ سنوات، ومع ذلك يبقيها لعلّ جسمه يعود الى سابق عهده فيرتديها، أو تعود هي على الموضة فيفتخر بها. ولا يستعمل أغراض بيته التي قد تتعرّض للتلف أو الكسر: فيخبّئ أواني الكريستال (ولو زائفة) ويقدّمها للضيوف وهو خائف عليها، ويستعمل أواني ربحها عندما عبّأ خزّان السيّارة بالوقود من محطّة البنزين التي يقصدها للحصول على مثل هذه الهدايا، ويميّز عند شرائه الحاجيّات بين ما هو للزائرين وما هو لأهل بيته، فيبتاح لهم أفخر انواع الفاكهة والخضار ويبقي له أرخصها وأسوأها. ويقول للبائع: أريد شيئاً جميلاً وثميناً لحمّام الضيوف، أو لغرفة الضيوف، أو لأنّ الضيوف قادمون الى العشاء. وهو الذي تجد عنده قطعة ملابس ذات ماركة عالميّة أهداه إيّاها قريب آت من السفر مع قطعة أخرى محليّة زهيدة اشتراها في موسم التنزيلات، ويدمن مشاهدة التلفزيون لأنّه يعجز عن تأمين كلفة رحلة سياحيّة، ويصف العالم كأنّه منه وفيه وله، ثم يفضح نفسه حين لا يجد موضوعاً للحديث سوى المقارنة ما بين المسلسلات المدبلجة المكسيكيّة والتركيّة. ويقيم حفلات الأعراس الباذخة، والمآتم الاستعراضيّة، وينتظر العروض على المأكولات في السوبر ماركت، ويسرع للاستفادة من كهرباء المولّد في الحيّ متى انقطعت كهرباء الدولة، ويقتني سيارة رباعيّة الدفع ولا يستخدمها توفيراً للبنزين، ويدفع بسخاء لنادل المطعم ويبخل على نفسه بمعاينة طبيب. أمّا أولاده فيتباهون بصورهم على الفايسبوك وهم يرتدون ثياباً أنيقة مستعارة أو بمشاهد من حفلات لم يحلموا بالمشاركة فيها أو من رحلات يريدون أن تثير الحسد والغيرة عند أصحابهم الإلكترونيّين الفقراء مثلهم. ولا أحسب أنّ ثرياً أصيلاً يعرض صورته وهو في أحد المطاعم أو يدخن السيكار أو يشرب الكحول أو يمارس رياضة مكلفة، أو يجد الوقت لتصفّح مواقع "الدردشة" المرتبطة على ما يبدو بـ"الدروشة".
كانت الطبقة المتوسّطة الحال صمّام أمان ومنبع ثقافة وفكر في المجتمع اللبنانيّ الذي صار اليوم موزّعاً ما بين أثرياء لا يبدو الثراء ثوباً فضفافاً عليهم لأنّه من طبيعة حياتهم ووجودهم، وهم في طور الانقراض، وفقراء يمثّلون ادوار الثراء وهم متسربلون بمظاهر حياتيّة دخيلة ومتطلّبة، يتعثّرون كلّ يوم فينقمون على الحياة لا على كسلهم وتضييع وقتهم في التقليد الغبي. أمّا الفقراء الحقيقيّون، فكرامتهم أغلى من أن يدّعوا ما ليسوا عليه لأنّهم غير معنيّين بآراء الآخرين بهم، وهم كالأثرياء الحقيقيّين متصالحون مع أنفسهم. في حين يغرق مدّعو الثراء وحديثو النعمة في معاناة من لا يشبع ولا يرتوي. ولا يمكن هؤلاء المزيّفين أن يقوموا بثورات اجتماعيّة أو تصحيحيّة أو تغييريّة كالتي نشهدها في العالم، لأنّ المثل اللبنانيّ يؤكّد أنّ: "الكسرة بإيد الشحاد غنيمة"، والمرحوم شوشو غنّى من زمان أنّنا كنّا وسنبقى: شحادين يا بلدنا! وما دمنا غير متّفقين على عدو واحد أو قضيّة وطنيّة واحدة، ونعتبر أنّ الاعتراض على ثمن الدواء وسعر صفيحة البنزين وربطة الخبز عيباً، فلن نُحدث إلاّ ثورة واحدة ننجح فيها بلا ريب، لكن في عالم... الأزياء.
هناك 3 تعليقات:
رائعة جدا جدا
ونقلة مميزة لحال هؤلاء في لبنان
بصراحة وبكل وضوح لم اتخيل ان لبنان العظيم به هذه الامور المؤلمة .. ولكن لابد من ان يمشو حالهم كما وضحتي ذلك بمقالتك .
في كلّ بلد يا طموحة مملوحة أمور عظيمة وأمور مؤلمة. وفي لبنان أمور عظيمة ورائعة أكتب عنها في مقالاتي وفيه أمور تحتاج إلى تصحيح. وحين أحاول أن أنقل ما أراه فهذا لا يعني أنّني بريئة منه. فأنا لبنانيّة بالحسنات التي في هذا الوطن، وبالسيّئات في طبيعة الحال.
إنّما الفقر فقر العقل وفقدان الإحساس والشفافية، والويل لنا فقد عشّش في حياتنا حبّ المظاهر المبالغ به وقضى على ما تبقّى فينا من صدقٍ وتواضع، مقالة رائعة ككلّ كتاباتك سيّدتي
إرسال تعليق