في السادس من أيّار من كلّ عام، يتذكّر اللبنانيّون الشهداء الذين علّقوا على المشانق زمن الحاكم العثمانيّ المتصرِّف برقاب الناس والعباد جمال باشا السفّاح. ولأنّ اثني عشر شهيدًا من الذين شنقوا في تلك المرحلة كانوا من الصحافيّين والأدباء، تحوّلت الذكرى مناسبة خاصّة بشهداء الصحافة الذين اغتيلوا خلال تاريخ لبنان بسبب مواقفهم وآرائهم ودفاعهم عن الحريّة.
وفي موسم الانتخابات الذي ألهى الناس عن التفكير في الأوضاع الإقليميّة، يستعيد الناس أسماء صحافيّين كانوا يعرفون أنّهم سيقتلون بسبب مواقفهم ومع ذلك لم يهربوا ولم يتراجعوا، في وقت غادر البلد كثير من القادة والزعماء والمرشّحين حفاظًا على حياتهم. ومن يغب عن الذاكرة منهم ستحييه الكلمات التأبينيّة التي توزع على الصحف في هذه الذكرى، بدءًا من صحافيي 6 أيّار وهم الشيخان فيليب وفريد الخازن ومحمود المحمصاني وعبد الكريم خليل وسعيد فاضل عقل والشيخ أحمد حسن طبّارة وعمر حمد وعبد الغني العريسي وباترو باولي وجرجي حدّاد والأمير عارف الشهابيّ، وصولاً إلى رئيس تحرير جريدة التلغراف نسيب متني (1958)، وفؤاد حدّاد وكامل مروّة رئيس تحرير جريدة الحياة الذي اغتيل عام 1966، وإدوار صعب (عام 1975)، وسليم اللوزي رئيس تحرير مجلّة الحوادث (عام 1980) الذي وجد جثّة في أحد الأحراج وقد ذوّبت يده اليمنى بالأسيد، ونقيب الصحافة رياض طه الذي أردته ستّ رصاصات شيطانيّة. أمّا جبران تويني وسمير قصير ومي شدياق التي نجت بأعجوبة فهم المرحلة الثالثة من درب جلجلة الصحافة اللبنانيّة، ولا تزال ذكراهم قريبة وحيّة، تهدّد ببئس المصير من يجرؤ على التعبير.
ليس لبنان وحده من راح الصحافيّون فيه شهداء على مذبح الحريّة، ففي العراق مثلاً، قتل أكثر من سبعين صحافيًّا وذلك فقط بعد سقوط صدّام حسين، عدا الذين أصيبوا واعتقلوا، ويصحّ الأمر مع الأسف في سائر البلدان العربيّة حيث لا يزال القمع سيّد الأحكام، ولا تزال الحريّة حلمًا يداعب مخيّلة الصحافة واعدًا إيّاها بمهرجان الكلمة والصورة والصوت. ولكن شتّان ما بين الحلم والواقع.
ومع استعادة هذه الذكرى، قد يكون مفيدًا لكلّ من يتعاطى الشأن الصحافيّ أن يتأمّل لبعض الوقت في هذه "الحريّة" التي يطالب بها الجميع، ويحاربها الجميع في الوقت نفسه. فباسم هذه "الحريّة" يتجاوز صحافيّون حدود الأخلاق وأمن الأوطان لتحقيق سبق صحافيّ، وبسبب هذه "الحريّة" يتباهى اللبنانيّون على جيرانهم العرب، ومن أجل هذه "الحريّة" يحتجّ الصحافيّون في هذه الدول على حكومات بلدانهم مطالبين برفع القيود عنها.
غير أنّه لا بدّ من وضع الأمور في نصابها الصحيح كي لا تخرج عن إطارها الصحيح: فالحريّة في لبنان مرهونة كما لا يخفى على أحد لأنظمة ودول ودفاتر حسابات، والصحافيّ الذي يكتب في صحيفة ما "حرّ" في أن يهاجم من هم خارج نطاق انتمائه، والمذيع في محطّة تلفزيونيّة ما "حرّ" في استضافة من ينتمي إلى التيّار الذي جرفه لا إلى ذاك الآخر الذي جرف سواه، وتلك المؤسّسة الإعلاميّة "حرّة" في تسريب هذا الفيلم ومنع ذاك ما دامت هذه "الحريّة" تخدم مصالحها. أمّا الحريّة في البلدان العربيّة فمرهونة بحكومات وأحزاب ورجال أعمال ورجال دين، وبالتالي لا تستطيع وسائل الإعلام أن تتجاوز الخطوط التي تضعها هذه السلطات وإلاّ تعرّضت لمضايقات وتضييق. والطامة الكبرى هي حين يطالب الصحافيّون بالحريّة وهم أوّل من يحاربها حين يمارسون الاضطهاد والتمييز والمحسوبيّة بين أبناء المهنة الواحدة، وغالبًا في المؤسّسة الإعلاميّة نفسها.
لذلك، أكاد أقسو في ما سأذهب إليه حين أقول إنّ الصحافيّين الأحرار فعلاً هم أولئك الذين ماتوا، وتحرّروا بموتهم من السلطات على اختلاف أنواعها، ومن هيمنة رؤوس الأموال، ومن الخوف على المصير والوطن...لذلك تبدو حريّة الصحافة في عالم المال والسياسة والدين سرابًا يموت الإنسان - أصحافيًّا كان أم متلقيًّا- قبل الوصول إليه أو ينجو ليعرف أنّ ذلك كلّه مجرّد وهم، إذ من السذاجة أن نتوقّع قيام صحافة حرّة في مجتمعات تحارب الفكر والوعي والمنطق، وحتّى الساعة لا يزال هذا هو واقع الحال عندنا.
هناك تعليقان (2):
طبيعى الا يكون فى صحافه حره لان المناخ كله مش حرالعربى تحديدا كله وليس لبنان فقط
كل شئ متحكم فيه شخص ما بسلطه ما بمال ما بشئ ما
سلسله مترابطه يعنى بعتبرها مؤامره
ولكن ما يمنع وجود صحفيين شرفاء بيحاولوا طبعا يقولوا رأيهم الحر لكن لا يخلصوا من المضايقات والاعتقالات ايضا
الصراحه والحريه تحتاج لارضها وهذه غير موجوده
وكلها محاولات لا غير ولا اعتقد ان الاحوال ستسر خلال الفتره القادمه
فالقادم اسوأ
يا صاحبة الجلالة.. قصدت الصحافة
إرسال تعليق