الأربعاء، 14 يناير 2015

بين الشعر والنثر (حكاية قصيرة للأولاد)




قال لي سلطان النثر: أحبّيني وانسَي الشعر!

نظرت إليه باستعلاء وأجبته: لك حبيبات كثيرات فدعني لحبيبي!
غضب سيّد الكلمة المحايدة، وأمر عبيده الصحافيين البلا مبدأ، والخطباء البلا نبرة، والمحاضرين البلا توهّج، بأن يزوّدوني بكميّات من الطعام ويرموا بي في برج بعيد مرتفع. ثمّ صرخ بصوت عظيم لا يخيف أحدًا ولو اهتزّت له الجدران:
ما دمت تحبّين الشعر، فسأجمع لك دواوين الشعراء من أربعة أقطار العالم، وأجعلها رفيقتك الوحيدة، إلى أن تعتذري عن نظرة الاستعلاء هذه!

مرّت أيّام وأنا في سجني الكبير، أتنقّل من كتاب إلى آخر، محتارة بين متعة الاستسلام لموسيقى الشعر وصوَره، أو مهمّة التفكير في طريقة للتخلّص من مكان مهما حلت الإقامة فيه يبق سجنًا، إلى أن سمعت صوت شابّ يغنّي تحت النافذة غناء صمتت من أجله الطبيعة، فناديته قائلة:
بحقّ المعاني الجميلة التي تغنّيها، والموسيقى التي تصدح من جرْس كلماتك، والصوت الذي وهبتك إيّاه السماء، أنقذني من سلطان النثر الذي رماني في هذا البرج!
أجاب الشاب: لولا الشعر الذي يتوهّج به صوتك لما فكّرت لحظة في مساعدتك. ولكن علينا أن نجد طريقة لإنقاذك، فالأمر ليس سهلًا.
أسرعت في طمأنته قائلة: عندي الحلّ، فأنا هنا تحيط بي ملايين الكتب، وسأقوم برميها لك، وأنت ترصفها بشكل ثابت لتصل إلى نافذتي، فأنزل عليها. فهل عندك الصبر لفعل ذلك؟
فردّ مبتهجًا: أنا أحبّ المطالعة ولكنّني غالبًا ما أعجز عن شراء الكتب، فلا تخشي عليّ إذًا من الملل، لأنّني خلال مرحلة تجميع ما ترمينه لي، أستفيد بما حلمت طويلًا بالاطّلاع عليه.
وهكذا بدأت عمليّة إنقاذي، التي تخلّلتها فترات راحة غرق فيها كلّ منّا في قصيدة . وحين كنت أقرأ ما يعجبني أرمي له الكتاب، فيقرأ بدوره، وحين كان يقع على نصّ لم أجد الوقت له يتلوه عليّ مرّة بعد مرّة، لننطلق بعدها في نقاش يختلط فيه الجدّ بالمزاح حول ما في عالمه الجميل، أو نتبارى في من يحسن إلقاء القصيدة أفضل من الآخر، أو في محاولة تلحينها وغنائها. 
وهكذا، كتابًا بعد آخر، كانت المسافة بيني وبين الشاب ذي الصوت الجميل تقصر، وحين التقينا على تلّة الكتب، عند طرف النافذة، كنّا حبيبين عندهما الكثير ليقرأاه ويتحدّثا بشأنه. 

هناك 5 تعليقات:

عابد يقول...

خيال جامح رائع .. وكأنك تقدمين ادوات بلوغ مرتبة الحوار .. يلزمني ان اتمرس بالغناء والطرب وان انتقي عذب الكلام ، وسأتلصص قرب النافذة اشدو الالحان وانتظر نداءك

محمد أبو عصام يقول...

كما قال سومرست موم
العلاقات الاكثر عمقا و رسوخا هي التي تنشأ بين شخصين يعشقون نفس الميول ونفس الكتب

سيدتي الجليلة ماري القصيفي
اعتذر عن التقصير في الردود
لانني دائما اصابح حروفك واماسيها
و لا القي تحية تليق
وهذا يجعلني اشعر بالذنب على قول مارونن عبود
عيب ان تعب من جب وتلقي فيه حجرا


فمعذرة ايتها الجليلة
واحترام وتقدير

ماري القصيفي يقول...

عابدالقادر الفيتوري
أهلًا بك ومرحبا في كلّ وقت، إضافتك تسعدني لأنّها تطمئنني عنك وعمّا أكتب

تحيّاتي وامتناني

ماري القصيفي يقول...

محمد الصحراء

يسعدني أنّك حزمت أمرك وشرّفت مدوّنتي بإضافة تؤكّد على أهميّة هذا التواصل!!
وما من تقصير البتّة، ولكن لا تبخل علينا بإطلالة حين تسمح الظروف تعطي الكلام أبعادًا جديدة وجميلة
تحيّاتي وتقديري

موجة يقول...

صورة تعبيرية رائعة وفريدة تحبب إلى الأنفس عالم الشعر البديع ، أسلوبك الأدبي شديد الرقي والسلاسة :)

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.