الراحلون سليم وإميلي وحبيب ومعهم جورج أطال الله في عمره |
هل
كنت أنتظر رحيل هذا الرجل كي أحكي عن ستة رجال عمالقة كأعمدة بعلبك أحاطوا بطفولتي:
خالي "سليم" وخالي "ميلاد مشلب" و"فؤاد ميلان"
زوج "حنينة" خالة والدتي و"عبده كرم" زوج عمّتي "روزالي" وابنا عمّ والدتي "نجيب"
و"حيبب مشلب"؟
والدي
ممشوق القامة، لكنّه والدي، أعمامي ليسوا قصارًا، لكنْ في هؤلاء الستّة طول ممزوج
عند بعضهم بضخامة جعلتني أنا الطفلة بكر والديها والمصابة بشلل الأطفال - أي
المحاطة باهتمام خاصّ -، أشعر حين يحضر أحدهم بأنّني لن أبقى على الأرض، بل سأطير
بعد قليل فوق ساعدين مفتولين ولن أقع، ولن تعيقني رِجل أو تؤخّرني دعسة ناقصة.
لم
يكن يعنيني عهدذاك ماذا يفعلون في الحياة، أو كيف هي حياتهم مع زوجاتهم وأولادهم،
أو كيف هي طباعهم وتصرّفاتهم مع سواي. فهم بالنسبة إليّ رجال كبار: ضخمة أجسادهم
لا تنحني إلّا لي، صلبة قلوبهم لا تلين إلّا لتحنو على ضعفي، عنيدة أفكارهم لا
تتراجع عن مواقفها إلّا أمام أوجاعي.
في
تلك المرحلة التي امتدت من الطفولة إلى الصبا، لم أعِ ما كان يحدث، ولو سئلت يومها
عمّا أراه في هؤلاء وغيرهم من أهلي وأقربائي والجيران والأصدقاء فما كنت لأعرف
بماذا أجيب، إذ كنت مشغولة إلى آخر نبض في عروقي بهاجس المشي والخوف من إعاقة تحرم
خطواتي معانقةَ الدروب والطرقات. ثمّ أتت مرحلة العمل والبحث عن الحبّ، فابتعدت عن
غير قصد عمّن أحاطوا بسرير الوجع، كمن يهرب من ذكريات تجرح ولا فائدة من مواجهتها
لأنّي لن أعرف كيف أداويها، أو كم يعترف بعجزه عن مشاهدة انطفائهم الذي لا يشبه ما
كانوا عليه.
وفي
تلك المرحلة أيضًا، كان أترابي يلعبون ويتّسخون بالتراب، في حين كان أهلهم عُوّادي
وزائريّ، يتحدّثون في شؤون الكبار وشجون الحياة، ما علّمني الهرب عبر شبابيك
الخيال إلى عوالم أخرى فلا أسمع الأحاديث ولا أنخرط في الحوار.
وكبرتُ،
وتقدّم هؤلاء الستّة في العمر وتراجعوا في العافية، وحين مرضوا واحدًا بعد آخر،
خفت من مواجهة ضعفهم فهربت إلى طفولتي لأستعيدهم عمالقة يحملونني ويطيرون بي فوق
سواعد ما عادت تساعدهم على قضاء أبسط حاجتهم.
"نجيب"
احدودب ظهره وانحنى كعلامة استفهام تبحث في الأرض عن نقطتها.
"عبده" ضربه المرض في رأسه فتألّم ومات.
"عبده" ضربه المرض في رأسه فتألّم ومات.
"سليم"
و"ميلاد" و"فؤاد" و"حبيب" ذابوا، على اختلاف
أعمارهم، في حضن أسرّتهم لأشهر وسنوات، فاضمحلّت فيهم العضلات، ونحلت الأجساد،
وذابت القوّة، وبهتت العافية، فعادوا أطفالًا مستسلمين لا حياة إلّا في عيونهم
المتلهّفة لوجه أليف وابتساماتهم الصادقة لكلّ من حولهم.
الآن
وقد رحل "حبيب" آخر عمالقة الطفولة من الأقرباء، وعلى الرغم من معاناة
كلّ منهم، أنظر إلى الحبّ الذي وزّعوه، كلّ بحسب معرفته وقدرته، وقد نلت منه طفلة حصّة
وفيرة، وإلى الحبّ الذي أحيطوا به من زوجاتهم وأولادهم وكنّاتهم وأصهرتهم
وأحفادهم، فتعود إليّ طمأنينة البدايات، ويخفّ الألم، وتبرأ جراح الروح، وتندمل
ندوب الجسد، وأعود لأرتفع عاليًا على سواعد استعادت بالموت قدرتها على الرفرفة
كأجنحة ملائكة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق