الجمعة، 6 أبريل 2018

أنظر حولي ويطير العصفور - 11 حزيران 1994



أنظر حولي ويطير العصفور
إنّه التّناقض ولا يهدأ
أستاذ زاهي (وهبي)
لو تعلم كم أتمنّى أن أكون مخطئة حين أعطي رأيًا أو أحكم على موقف، وكم أودّ لو في إمكاني أن أمنع نفسي عن سماع ما يقال في المسرح أو في المقهى، وكم أتمنّى لو أتقاضى عمّا أسمعه وأقرأه.
في مرّات كثيرة،  أقول لنفسي، لماذا "أحمل هذا السّلّم بالعرض، ولماذا "أحاسب" النّاس على كلّ كلمة يقولونها أو يكتبونها؟
ولكنّي أعود وأقول: يجب أن يعرف هؤلاء أنّنا ، نحن القرّاء، موجودون، ولنا ما نقوله أو لتحقّق فينا ما قاله نبيل خوري في "النّهار" (1):
"كاتب لا يؤثّر، وقارئ لا يتأثّر".
قرأت ما قاله لك أمين الباشا عن النّقد: "لم يوجد في لبنان حتّى الآن كتابة نقديّة".
وسألت.
هل أفضح سرًّا إذا قلت إنّ الّذين كانوا في مسرح بيروت ليلة الثّلثاء لم يحبّوا مسرحيّة سهام ناصر. كان التّصفيق خجولاً، وملأت القاعة همسات الاستغراب والتّساؤل ماذا يجري على المسرح، وساد جوّ من النّكات والأحاديث بين الحضور لتمرير الوقت، مع إنّ ليلة الثّلاثاء كانت للدّعوات، وكان بين الموجودين كثير من "الخاصّة": أدباء ونقّاد وأهل مسرح وثقافة... سمعتهم يعترضون ورأيتهم، بعد ذلك، ينتظرون سهام ناصر لتهنئتها، ثم يكتبون مهلّلين.
 هل يحقّ لي أن أذكر أسماء هؤلاء أو للمجالس حرمتها؟
ثم سألت.
ما بال النّقّاد يدورون في حلقة مفرغة؟ أنا أفهم النّقد تحليلاً، غوصًا في الأعماق، تشريحًا للإداء، للموسيقى، للدّيكور، للملابس، للّعبة المسرحيّة. ولكن الّذين كتبوا عن هذه المسرحيّة لم يتحدّثوا إلاّ عن موضوعها، إيّ عن شخصيّة ميديا، وهذا يعني أوّلاً أنّهم يكتشفون مع سهام ناصر نصّ جان أنوي، ويعني ذلك ثانيًا أنّهم عاجزون عن المقارنة بين النّصّ الأصلي والنّصّ المسرحيّ، فيلجأون إلى الحديث مع المخرجة علّها تزيد الغموض وتسدّ ثغرة عدم المعرفة.
لماذا يجد النّاقد نفسه مضطرًّا إلى محادثة صاحب العمل الإبداعيّ قبل الكتابة عن هذا العمل؟
في رأيي، أنّه يفعل ذلك إمّا لأنّ العمل الإبداعيّ غامض ولم يوصل الرّسالة جيّدًا. وإمّا لأنّ النّاقد لا يجرؤ على التّعبير عن فهمه الخاصّ لهذا العمل خشية أن يتعارض مع السّائد. ولعلّ هذه العادة في أخذ رأي صاحب العمل الإبداعيّ هي السّبب الّذي يجعل النّقد كلّه متشابهًا. وكأنّه صدى لصوت واحد. ليت النّقّاد يعرفون قصّة أبي نوّاس مع شارح قصيدته، وهذا يتعارض مع رأي أمين الباشا القائل: "ليس هناك بديل من الشّاعر ليحكي عن الشّعر".
أنا لست ناقدة، ولهذا قد يحقّ لي أن أقول: أحببت "الجيب السّرّيّ"، وأزعجني حضور مسرحيّة "ميديا ميديا". ولكن لا يحقّ للنّاقد أن يقول: أحببت أو كرهت. عليه أن يضيء لنا جوانب من العمل الإبداعيّ لم نرها وليس فقط لم نفهمها. كما عليه ان يقول لصاحب العمل أين أخطأ وأين أصاب، أو تكرّرت الأعمال وتكرّرت المشاهد، وتكرّرت الأخطاء، ودرنا حول أفكارنا كالدّراويش الّذين أعجبت بهم سهام ناصر فقلّدتهم، كما قلّدت مشهدًا من "مذكّرات أيّوب"، وآخر من أعمال عبد الحليم كركلاّ. ولهذا لم يجد النّقّاد ما يتحدّثون عنه سوى شخصيّة المرأة، ميديا. وكان يمكننا أن نكتفي بالقراءة عن هذا الموضوع.
ما ذنب المسرح إذا كان بعض النّقّاد لا يقرأون ولا يعرفون؟
التّلميذ الكسول هو الّذي يعيد صفّه، والتّاريخ لا يعيد نفسه إلاّ عند الشّعوب الّتي لا تحسن القراءة والفهم والاستنتاج، فلا تتعلّم من أخطائها وتكرّرها بغباء.
لا أعرف هل اتّحاد الكتّاب اللّبنانيّين كسول، ولكنّه، في أيّ حال، ما زال يرتكب الأخطاء نفسها.
عام 1981، كتب جهاد فاضل في مجلّة "الحوادث"، تحت عنوان "اتّحاد الكتّاب إسم على غير مسمّى": "حان الوقت لأن نعود في لبنان إلى فكرة الحدود والإختصاصات". قد لا أوافق على الكثير من آراء جهاد فاضل في الأدب والشّعر. ولكنّي عندما أسمع الرّأي نفسه على لسان بول شاوول معلّقًا على وجود وليد غلميّة في الاتّحاد، فذلك يعني إنّ المشكلة في الاتّحاد الّذي وقع في التّناقض بين إسمه وعمله. على كلّ حال، لن يكون الدّكتور غلميّة أقلّ قدرة أدبيّة من السّيّدة ماجدة الرّومي الّتي أصبحت عضوًا في مجمع الحكمة العلميّ.
الكلام الآن للمطران جورج خضر: "... عجالتي هي عن الشّرق المسيحيّ الّذي كان بجملته أشدّ لينًا من الغرب تجاه المبتدعين. لن أتعرّض هنا لفلسفة المعرفة بين الكنيستين...
والحرّيّة تسمح بالتّعبير... دربنا إلى الحرّيّة الكبيرة والتّسامح الحقّ لا تزال شاقّة. متى تهدأ العاصفة وتهبّ رياح الرّوح  لنتعايش باختلاف وسلام في آن، لنطوي صفات الماضي المظلم ونبني الإنسان الشّريد".
"في منطقتنا هنا أخطا الأرثوذكسيّون وخطئوا عندما حالفوا السّلطة العثمانيّة لقمع الرّوم الكاثوليك النّاشئين في القرن الثّامن عشر إذ إنّ الثّمن الّذي يدفعه المؤمن الغاضب للسّلطة السّياسيّة باهظ حدًّا".
نشر هذا الكلام في جريدة "النّهار"، السّبت 21 أيّار 1994.
وفي شهر أيّار أيضًا، صدرت مجلّة "رعيّتي" عن أبرشيّة جبيل والبترون، وتحت عنوان: "كلمة الرّاعي"، كتب المطران جورج خضر، نفسه، ما يلي(2):
"الزّواج المختلط أي هذا المنعقد بين أرثوذكسيّ وغير أرثوذكسيّة مكروه. وقد سنّت الكنيسة في القرن الرّابع قوانين تحرمه بسبب الخطر العقائديّ على الطّرف الأرثوذكسيّ، ولكون وحدة العائلة تقوم على شركة الإيمان... وإذا كنّا نقبل مكرهين هذا الإرتباط، فمع احترامنا لعقيدة المرأة نصرّ على أن ينشأ أولادنا على الإيمان الأرثوذكسي".
وعرض المطران خضر تدبير الكنيسة الكاثوليكيّة لحصول الفتاة الكاثوليكيّة على الوثائق من كنيستها بعد أن تصرّح بأنّها باقية على المعتقد الكاثوليكي، يقول:
"من هنا، إنّ كهنة هذه الأبرشيّة غير مضطرّين إلى الاستحصال على وثائق صادرة من السّلطة الكاثوليكيّة. يمكنهم في ما يختصّ بالمعموديّة الإعتماد على شاهدين علمانيّين، وفي ما يختصّ بوثيقة إطلاق الحال الإعتماد على المختار أو الشّاهدين".
سبحان من يغيّر ولا يتغيّر.
خلال شهر واحد، تتغيّر اللّهجة، وتتبدّل الآراء. فالمطران خضر حين يتوجّه إلى أبناء رعيّته يشحنهم بالغضب والعداوة، ويردّ على التّعصّب بالتّعصّب. وحين يتوجّه إلى النّاس عامّة ينادي بالحرّيّة والتّسامح. وحين يتعلّق الأمر بالكاثوليك، يلجأ المطران إلى العلمانيّين، فيجعلهم شهودًا، ويثق بالدّولة وموظّفيها ويسمح بالإعتماد على المختار، مع إنّه يعلم ويقول إنّ "الثّمن الّذي يدفعه المؤمن الغاضب للسّلطة السّياسيّة باهظ جدًّا".
لماذا لا نسمح إذن بالزواج المدنيّ ونوفّر عن الطوائف هذا العبء ونعفي الرّؤساء الرّوحيّين من هذا التّناقض في مخاطبة العامّة والخاصّة؟
أستاذ زاهي
في سياق كلام واحد، تداخلت أمور الدّين والأدب والمسرح، ويصحّ لها كلّها عنوان واحد هو التّناقض. ما بالنا لا نعرف ماذا نريد، وكأنّ لا قدرة لنا على التّمييز بين الخطأ والصّواب. إنّها المتاهة الكبرى.
إنّه التّناقض سيّد المرحلة وشعارها.
عنوان كلّ كتابة وخاتمة لكلّ قول.
التّناقض عمومًا غنى وثروة.
يتعاكس الأسود مع الأبيض فيعطيانك مشهدًا جميلاً.
وفي بديع اللّغة، الطّباق والمقابلة زينة.
وفي الحياة، يتحارب الخير والشّرّ، وفي تواجههما يتركان لك الاختيار والانحياز، حرّيّة أن تكون إنسانًا.
وحين نتحاور ـ أنا وأنت ـ حول فكرة أو كلمة، وتختلف آراؤنا، يكون ذلك الاختلاف دافعًا لكتابة جديدة تحمل نكهة مختلفة.
ولكن، ماذا تقول حين يتناقض المرء مع نفسه، وحين تتعارض مواقفه وآراؤه، في رهان محسومة نتائجه، ومفادها: إطمئنّ، إنّ القارئ لا يقرأ؟
ميّ م. الرّيحاني
جريدة "النّهار" السّبت 11 حزيران 1994
1 ـ "النّهار"، السّبت 28 أيّار 1994.
2 ـ رعيّتي، تصدرها أبرشيّة جبيل والبترون، الأحد 8 أيّار 1994.

   







ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.